نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا قَوۡلُ ٱلۡبَشَرِ} (25)

ولما كان السامع يجوز أن يكون مأثوراً عن الله فيوجب له ذلك الرغبة فيه ، قال من غير عاطف كالمبين للأول والمؤكد له ، وساقه على وجه التأكيد بالحصر لعلمه أن كل ذي بصيرة ينكر كلامه : { إن } أي ما { هذا } أي القرآن { إلا قول البشر * } أي ليس فيه شيء عن الله فلا يغتر أحد به ولا يعرج عليه ، وقد مدحه بهذا الذم بعد هذا التفكير كله من حيث إنه أثبت أنه معجوز عنه لأغلب الناس{[69803]} كما يعجزون عن السحر فسكت ألفاً ونطق خلفاً ، فكان شبيهاً من بعض الوجوه بما قاله بعضهم{[69804]} :

لو قيل " كم خمس وخمس " لاغتدى *** يوماً وليلته يعد ويحسب

ويقول معضلة عجيب أمرها *** ولئن عجبت لها لأمري أعجب

حتى إذا خدرت{[69805]} يداه وعورت *** عيناه{[69806]} مما قد يخط ويكتب

أوفى على شرف{[69807]} وقال ألا انظروا *** ويكاد من فرح يجن ويسلب

خمس وخمس ستة أو سبعة *** قولان قالهما الخليل وثعلب

وهكذا كل حق يجد المبالغ في ذمه لا ينفك ذمه عن إفهام مدح له ينقض كلامه ، ولكن أين النقاد المعدود من الأفراد بين العباد{[69808]} ، وهذا الكلام صالح لعموم كل من خلقه سبحانه هكذا في الروغان من الحق لما تفضل الله به عليه من الرئاسة لأن أهل العظمة في الدنيا هم في الغالب القائمون في رد الحق والتعاظم على أهله كما ذكر هنا ولا ينافي ذلك{[69809]} ما قالوه : إنها نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي ، بل ذلك من إعجاز كلام الله تعالى أن تنزل{[69810]} الآية في شخص فتبين حاله غاية البيان ويعم غيره ذلك البيان ، قالوا : كان للوليد هذا عشرة من البنين ، كل واحد منهم كبير قبيلة ، ولهم عبيد يسافرون في تجاراتهم ويعملون احتياجاتهم ، ولا يحوجونهم إلى الخروج من البلد لتجارة ولا غيرها ، وأسلم منهم ثلاثة : الوليد بن الوليد وخالد وهشام ، وقيل{[69811]} : إنه لما نزل{[69812]} على النبي صلى الله عليه وسلم أول سورة غافر إلى قوله{[69813]} :

{ المصير }[ غافر : 3 ] أو أول " فصلت " قرأها النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد والوليد يسمعه ، فأعاد القراءة فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه بني مخزوم ، فقال : والله لقد سمعت من محمد صلى الله عليه وسلم آنفاً-{[69814]} كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن ، إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر{[69815]} وإن أسفله لمعذق ، وإنه ليعلو ولا يعلى{[69816]} ، ثم انصرف فقالت قريش : صبا والله الوليد ، والله لتصبون قريش كلها{[69817]} ، وكان يقال للوليد{[69818]} ريحانة قريش ، فقال ابن أخيه أبو جهل : أنا أكفيكموه ، فقعد إلى جنب الوليد حزيناً ، فقال الوليد : ما لي أراك حزيناً يا ابن أخي ؟ قال : وما يمنعني وهذه قريش تجمع لك نفقة تعينك بها على كبر سنك وتزعم أنك صبوت ، لتدخل على ابن أبي كبشة وابن أبي قحافة لتنال{[69819]} من فضل طعامهم ، فغضب الوليد وقال : ألم تعلم قريش أني {[69820]}من أكثرها{[69821]} مالاً وولداً ، وهل شبع محمد وأصحابه من الطعام فيكون لهم فضل ؟ ثم قام مع أبي جهل حتى أتى مجلس قومه و{[69822]}أداروا الرأي{[69823]} فيما يقولونه في القرآن فقالوا له : {[69824]}ما تقول{[69825]} في هذا الذي-{[69826]} جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ؟ قال : قولوا أسمع لكم ، قالوا : شعر ، قال : ليس بشعر ، قد علمنا الشعر كله ، وفي رواية : هل رأيتموه-{[69827]} يتعاطى شعراً ؟ قالوا : كهانة ، قال : ليس بكهانة ، هل رأيتموه يتكهن ؟ فعدوا أنواع البهت التي رموا بها القرآن فردها ، وأقام الدليل على ردها ، وقال : لا تقولوا شيئاً من ذلك إلا أعلم أنه كذب ، قالوا : فقل أنت وأقم لنا فيه رأياً نجتمع عليه ، قال : أقرب ذلك إليه السحر ، هو يفرق بين المرء وأبيه وبين المرء{[69828]} وزوجه وعشيرته ، فافترقوا على ذلك ، وكان قوله هذا سبب هلاكه فكان كما قال بعضهم :

احفظ لسانك أيها الإنسان *** لا يلدغنك إنه ثعبان

كم في المقابر من قتيل لسانه *** كانت تخاف{[69829]} لقاءه الشجعان


[69803]:وإلى هنا الطمس في الأصل.
[69804]:زيد في الأصل: حيث قال، ولم تكن الزيادة في ظ و م فحذفناها.
[69805]:من ظ و م، وفي الأصل: اخدرت.
[69806]:من ظ و م، وفي الأصل: يمناه.
[69807]:من م، وفي الأصل و ظ: خطر.
[69808]:من ظ، وفي الأصل و م: الأفراد.
[69809]:من ظ و م، وفي الأصل: ذكر.
[69810]:من م، وفي الأصل و ظ: تنزلت.
[69811]:راجع المعالم 7/146.
[69812]:من ظ و م، وفي الأصل: نزلت.
[69813]:سقط من ظ و م.
[69814]:زيد في ظ و م والمعالم.
[69815]:من ظ و م والمعالم، وفي الأصل: لملم-كذا.
[69816]:زيد في الأصل و ظ: عليه، ولم تكن الزيادة في م والمعالم فحذفناها.
[69817]:من ظ و م والمعالم، وفي الأصل: لولد الوليد.
[69818]:من ظ و م والمعالم، وفي الأصل: لولد الوليد.
[69819]:من ظ و م، وفي الأصل: لتناول.
[69820]:من ظ و م، وفي الأصل: أعظمهم، وفي المعالم: من أكثرهم.
[69821]:من ظ و م، وفي الأصل: أعظمهم، وفي المعالم: من أكثرهم.
[69822]:من ظ وفي الأصل: دارونها-كذا، ومن هنا يتحول السياق من المعالم.
[69823]:من ظ وفي الأصل: دارونها-كذا، ومن هنا يتحول السياق من المعالم.
[69824]:من ظ: وفي الأصل: إنك، وهنا سقطة في م.
[69825]:من ظ، وفي الأصل: إنك، وهنا سقطة في م.
[69826]:زيد من ظ و م.
[69827]:زيد من ظ و م.
[69828]:زيد في الأصل: وابنة، ولم تكن الزيادة في ظ و م فحذفناها.
[69829]:في ظ: تهاب.