الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{قُل لَّا تُسۡـَٔلُونَ عَمَّآ أَجۡرَمۡنَا وَلَا نُسۡـَٔلُ عَمَّا تَعۡمَلُونَ} (25)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء المشركين: أحد فريقينا على هدى والآخر على ضلال، لا تُسْألون أنتم عما أجرمنا نحن من جرم، وركبنا من إثم، ولا نُسأَلُ نحن عما تعملون أنتم من عمل.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{قل لا تُسألون عما أجرمنا ولا نُسأل عما تعملون} قال بعضهم: قال ذلك لأنهم كانوا يُعيّرون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ويوبّخونهم في طعنهم الأصنام التي عبدوها وذكرهم إياها بالسوء وما يدّعون عليه من الافتراء بأنه رسول الله، فيقولون لهم: {قل لا تُسألون عما أجرمنا} نحن {ولا نُسأل عما تعملون} وهو كقوله في سورة هود: {قل إن افتريته فعليّ إجرامي وأنا بريء مما تُجرمون} [الآية: 25].

ويحتمل أن يكون قوله: {قل لا تُسألون عما أجرمنا} أي عما تدينا من الدين أو عما عملنا من الأعمال} {ولا نُسأل عما تعملون} أنتم أي عما تدينون من الدين كقوله: {لكم دينكم ولي دين} [الكافرون: 6] وكقوله: {لنا أعمالنا ولكم أعمالكم} [الشورى: 15]، وإنما يقال هذا بعد ظهور العناد والمكابرة، فأما عند الابتداء فلا.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

هذا أدخل في الإنصاف [و] أبلغ فيه من الأوّل، حيث أسند الإجرام إلى المخاطبين والعمل إلى المخاطبين، وإن أراد بالإجرام: الصغائر والزلات التي لا يخلو منها مؤمن، وبالعمل: الكفر والمعاصي العظام...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

أضاف الإجرام إلى النفس وقال في حقهم: {ولا نسئل عما تعملون} ذكر بلفظ العمل لئلا يحصل الإغضاب المانع من الفهم.

{لا تسئلون} {ولا نسئل} زيادة حث على النظر؛ وذلك لأن كل أحد إذا كان مؤاخذا بجرمه فإذا احترز نجا، ولو كان البريء يؤاخذ بالجرم لما كفى النظر...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{قل لا تسئلون} أي من سائل ما {عما أجرمنا} أي قطعنا فيه ما ينبغي أن يوصل مما أوجبه لنا الضلال.

{ولا نسئل} أي أصلاً في وقت من الأوقات من سائل ما.

{عما تعملون} أي مما بنيتموه على العلم الذي أورثكموه الهدى؛ أي فاتركونا والناس غيركم كما أنا نحن تاركوكم، فمن وضح له شيء من الطريقين سلكه...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ولعل هذا كان رداً على اتهام المشركين بأن الرسول [صلى الله عليه وسلم] ومن معه هم المخطئون الجارمون! وقد كانوا يسمونهم: (الصابئين) أي المرتدين عن دين الآباء والأجداد. وذلك كما يقع من أهل الباطل أن يتهموا أهل الحق بالضلال! في تبجح وفي غير ما استحياء!

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

أعيد الأمر بأن يقول لهم مقالاً آخر، إعادة لزيادة الاهتمام كما تقدم آنفاً واستدعاء لأسماء المخاطبين بالإِصغاء إليه؛ ولما كان هذا القول يتضمن بياناً للقول الذي قبله، فُصِلتْ جملة الأمر بالقول عن أختها إذ لا يعطف البيان على المبين بحرف النسق.

وأيضاً فُصِلت لتكون هذه الجملة مستقلة بنفسها ليخصها السامع بالتأمل في مدلولها فيجوز أن تعتبر استئنافاً ابتدائياً، وهي مع ذلك اعتراض بيّن أثناء الاحتجاج.

وإسناد الإِجرام إلى جانب المتكلم ومن معه مبنيّ على زعم المخاطبين، قال تعالى: {وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون} [المطففين: 32] كان المشركون يؤنِّبون المؤمنين بأنهم خاطئون في تجنب عبادة أصنام قومهم، وهذه نكتة صوغه في صيغة الماضي؛ لأنه متحقق على زعم المشركين، وصيغ ما يعمل المشركون في صيغة المضارع لأنهم ينتظرون منهم عملاً تعريضاً بأنهم يأتون عملاً غير ما عملوه، أي يؤمنون بالله بعد كفرهم؛ وهذا ضرب من المشاركة والموادعة ليخلوا بأنفسهم فينظروا في أمرهم ولا يلهيهم جدال المؤمنين عن استعراض ومحاسبة أنفسهم.

وليس لهذه الآية تعلق بمشاركة القتال، فلا تجعل منسوخة بآيات القتال...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

هذا تلطف آخر وارتقاء فى حِجَاجِ الكفار يُظهِر مدى حرص سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يستلَّ الضغينة من نفوس الكفار، وتأمل: {لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا..} فيجعل رسول الله الإجرام في جانبه وهو ولم يُسَوِّ هذه المرة بين الطرفين، كما قال هناك {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ..} [سبأ: 24] إنما وصف فِعْله بالإجرام وقال عن الكفار {وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} ولم يَقُل تجرمون.

وفي الآية دقيقة أخرى، هي ورود (أَجْرَمْنَا) بصيغة الماضي، كأن الإجرام حدث بالفعل، أما هم فورد الفعل (تَعْلَمُونَ) بصيغة المضارع؛ ليدل على أنه لم يحدث منهم بعد، وهذا تلطف آخر، وارتقاء في النقاش، وتودُّد إلى الخَصْم عَلَّه يرعوى، فيفرح الله بتوبته وعودته إلى رحابه.

وهذا الأسلوب الجدلي في الآيتين لا يتأتَّى إلا من المجادل القوي الحجة الذي لا تنزله عنها زَلَّة سابقة من خَصْمه. ومثل ذلك قولنا في المناقشة: سلَّمنا جدلاً بكذا وكذا، ونرضى لأنفسنا بالأقل، لماذا؟ لأنك تعلم أنك على الحق، وقوة الجدل لديك تجعلك على ثقة بأن البحث في المسألة سينتهي لصالحك.

لكن، مع ذلك كيف يأمر الحق سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم أنْ ينسب الإجرام إلى نفسه؟ قالوا: لأن الجُرْم يختلف باختلاف المخاطب به، كما قالوا: حسنات الأبرار سيئات المقربين.

ثم تنتهي الآيات إلى خلاصة هذه القضية في قوله تعالى:

{قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ...}.