قوله تعالى : { فسلام لك من أصحاب اليمين } أي : سلامة لك يا محمد منهم ، فلا تهتم لهم ، فإنهم سلموا من عذاب الله ، وأنك ترى فيهم ما تحب من السلامة . قال مقاتل : هو أن الله تعالى يتجاوز عن سيئاتهم ويقبل حسناتهم . وقال الفراء وغيره : مسلم لك أنهم من أصحاب اليمين ، أو يقال لصاحب اليمين : مسلم لك إنك من أصحاب اليمين ، فألقيت إن كان الرجل يقول إني مسافر عن قليل ، فيقول له : أنت مصدق مسافر عن قليل ، وقيل : { فسلام لك } يعني : عليك من أصحاب اليمين .
والسلام : اسم للسلامة من المكروه ، ويطلق على التحية ، واللام في قوله : { لك } للاختصاص .
والكلام إجمال للتنويه بهم وعلوّ مرتبتهم وخلاصهم من المكدرات لتذهب نفس السامع كل مذهب .
واختلف المفسرون في قوله : { فسلام لك من أصحاب اليمين } فقيل : كاف الخطاب موجهة لغير معين ، أي لكل من يسمع هذا الخبر . والمعنى : أن السلامة الحاصلة لأصحاب اليمين تسر من يبلغه أمرها . وهذا كما يقال : ناهيك به ، وحسبك به ، و ( من ) ابتدائية ، واللفظ جرى مجرى المثل فطوي منه بعضه ، وأصله : فلهم السلامة سلامة تسرّ من بلغه حديثها .
وقيل : الخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم وتقرير المعنى كما تقدم لأن النبي صلى الله عليه وسلم يُسرّ بما يناله أهل الإسلام من الكرامة عند الله وهم ممن شملهم لفظ { أصحاب اليمين } . وقيل : الكلام على تقدير القول ، أي فيقال له : سلام لك ، أي تقول له الملائكة .
و { من أصحاب اليمين } خبر مبتدأ محذوف ، أي أنت من أصحاب اليمين ، و { من } على هذا تبعيضية ، فهي بشارة للمخاطب عند البعث على نحو قوله تعالى : { والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار } [ الرعد : 23 ، 24 ] .
وقيل : الكاف خطاب لمن كان من أصحاب اليمين على طريقة الالتفات . ومقتضى الظاهر أن يقال : فسلام له ، فعدل إلى الخطاب لاستحضار تلك الحالة الشريفة ، أي فيسلم عليه أصحاب اليمين على نحو قوله تعالى : { وتحيتهم فيها سلام } [ يونس : 10 ] أي يبادرونه بالسلام ، وهذا كناية عن كونه من أهل منزلتهم ، و { من } على هذا ابتدائية .
فهذه محامل لهذه الآية يستخلص من مجموعها معنى الرفعة والكرامة .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"وأمّا إنْ كانَ الميت مِنْ أصحَابِ اليَمِينِ "الذين يُؤخذ بهم إلى الجنة من ذات أيمانهم، "فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أصحَابِ اليَمِينِ". ثم اختلف في معنى قوله: "فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أصحَابِ اليَمِينِ"؛
فقال أهل التأويل... عن قتادة... قال: سلام من عند الله، وسلّمت عليه ملائكة الله...
وأما أهل العربية، فإنهم اختلفوا في ذلك؛ فقال بعض نحوّيي البصرة "وأمّا إنْ كانَ مِنْ أصحَابِ اليَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أصحَابِ اليَمِينِ": أي فيقال سلم لك. وقال بعض نحويّي الكوفة: قوله: "فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أصحَابِ اليَمِينِ": أي فذلك مسلم لك أنك من أصحاب اليمين...
وقوله: "فَسَلامٌ لَكَ" معناه: فسلم لك أنت من أصحاب اليَمين. قال: وقد يكون كالدعاء له، كقوله: فسُقيا لك من الرجال...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: معناه: فسلام لك إنك من أصحاب اليمين... فسلمت من عذاب الله، ومما تكره، لأنك من أصحاب اليمين.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"فسلام لك من أصحاب اليمين " دخلت كاف الخطاب كما يدخل في ناهيك به شرفا، وحسبك به كرما، أي لا تطلب زيادة جلالة على جلالة، وكذلك سلام لك منهم أي لا تطلب زيادة على سلامهم جلالة وعظم منزلة. وقال قتادة: معناه فسلام لك أيها الإنسان الذي من أصحاب اليمين من عذاب الله...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ومعناه: أبشر بالسلامة لأصحاب اليمين، كأنه يقول: لا تشغل قلبك بهم، فإنهم قد نالوا السلامة. وقيل: المراد من الآية تسليم بعضهم على بعض، كأن بعضهم يسلم على بعض، ويهنئ بالسلامة.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
عبارة تقتضي جملة مدح وصفة تخلص وحصول في عال من المراتب ليس في أمرهم إلا السلام والنجاة من العذاب، وهذا كما تقول في مدح رجل: أما فلانة فناهيك به، أو فحسبك أمره، فهذا يقتضي جملة غير مفصلة من مدحه، وقد اضطربت عبارات المتأولين في قوله تعالى: {فسلام لك} فقال قوم: المعنى: فيقال له مسلم لك إنك من أصحاب اليمين، وقال الطبري المعنى: {فسلام لك} أنت {من أصحاب اليمين}، وقيل المعنى {فسلام لك} يا محمد، أي لا ترى فيهم إلا المسالمة من العذاب، فهذه الكاف في ذلك إما أن تكون للنبي عليه السلام وهو الأظهر، ثم لكل معشر فيها من أمته وإما أن تكون لمن يخاطب من أصحاب اليمين، وغير هذا مما قيل تكلف.
المسألة الأولى: في السلام وفيه وجوه؛
(أولها) يسلم به صاحب اليمين على صاحب اليمين، كما قال تعالى من قبل: {لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما، إلا قيلا سلاما سلاما}،
(ثانيها) {فسلام لك} أي سلامة لك من أمر خاف قلبك منه فإنه في أعلى المراتب، وهذا كما يقال لمن تعلق قلبه بولده الغائب عنه، إذا كان يخدم عند كريم، يقول له: كن فارغا من جانب ولدك فإنه في راحة.
(ثالثها) أن هذه الجملة تفيد عظمة حالهم كما يقال: فلان ناهيك به، وحسبك أنه فلان، إشارة إلى أنه ممدوح فوق الفضل.
المسألة الثانية: الخطاب بقوله: {لك} مع من؟ نقول: قد ظهر بعض ذلك فنقول: يحتمل أن يكون المراد من الكلام النبي صلى الله عليه وسلم، وحينئذ فيه وجه وهو ما ذكرنا أن ذلك تسلية لقلب النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم غير محتاجين إلى شيء من الشفاعة وغيرها، فسلام لك يا محمد منهم فإنهم في سلامة وعافية لا يهمك أمرهم، أو فسلام لك يا محمد منهم، وكونهم ممن يسلم على محمد صلى الله عليه وسلم دليل العظمة، فإن العظيم لا يسلم عليه إلا عظيم، وعلى هذا ففيه (لطيفة) وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم مكانته فوق مكانة أصحاب اليمين بالنسبة إلى المقربين الذين هم في عليين، كأصحاب الجنة بالنسبة إلى أهل عليين، فلما قال: {وأما إن كان من أصحاب اليمين} كان فيه إشارة إلى أن مكانهم غير مكان الأولين المقربين، فقال تعالى: هؤلاء وإن كانوا دون الأولين لكن لا تنفع بينهم المكانة والتسليم، بل هم يرونك ويصلون إليك وصول جليس الملك إلى الملك والغائب إلى أهله وولده، وأما المقربون فهم يلازمونك ولا يفارقونك وإن كنت أعلى مرتبة منهم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{لك} أي يا أعلى الخلق أو يا أيها المخاطب. ولما كان من أصاب السلام على وجه من الوجوه فائزاً، فكيف إذا كان مصدراً للسلام ومنبعاً منه قال: {من أصحاب اليمين} أي أنهم في غاية من السلامة وإظهار السلام، لا يدرك وصفها، وهو تمييز فيه معنى التعجيب، فإن إضافته لم تفده تعريفاً، وفي اللام و {من} مبالغة في ذلك، فالمعنى: فأما هم فعجباً لك وأنت أعلى الناس في كل معنى، وأعرفهم بكل أمر غريب منهم في سلامتهم وسلامهم وتعافيهم وملكهم وشرفهم وعلو مقامهم، وذلك كله إنما أعطوه لأجلك زيادة في شرفك لاتباعهم لدينك.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فيلتفت بالخطاب إليه.. يبلغه سلام إخوانه من أصحاب اليمين. وما أندى السلام ساعتئذ وما أحبه. حين يتلقاه وقد بلغت الحلقوم! فيطمئن باله ويشعر بالأنس في الصحبة المقبلة مع أصحاب اليمين...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
واختلف المفسرون في قوله: {فسلام لك من أصحاب اليمين} فقيل: كاف الخطاب موجهة لغير معين، أي لكل من يسمع هذا الخبر. والمعنى: أن السلامة الحاصلة لأصحاب اليمين تسر من يبلغه أمرها. وهذا كما يقال: ناهيك به، وحسبك به، و (من) ابتدائية، واللفظ جرى مجرى المثل فطوي منه بعضه، وأصله: فلهم السلامة سلامة تسرّ من بلغه حديثها.