والمألوف في سياق القرآن أن يعرض صفحتين متقابلتين في مشاهد القيامة . فهو يعرض هنا صفحة المؤمنين في مقابل صفحة الكافرين ، تتمة لمدلول الآية الثانية في السورة : ( ليبلوكم أيكم أحسن عملا ) . . بذكر الجزاء بعد ذكر الإبتلاء :
( إن الذين يخشون ربهم بالغيب ، لهم مغفرة وأجر كبير ) . .
والغيب المشار إليه هنا يشمل خشيتهم لربهم الذي لم يروه ، كما يشمل خشيتهم لربهم وهم في خفية عن الأعين ، وكلاهما معنى كبير ، وشعور نظيف ، وإدراك بصير . يؤهل لهذا الجزاء العظيم الذي يذكره السياق في إجمال : وهو المغفرة والتكفير ، والأجر الكبير .
ووصل القلب بالله في السر والخفية ، وبالغيب الذي لا تطلع عليه العيون ، هو ميزان الحساسية في القلب البشري وضمانة الحياة للضمير . . قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده : حدثنا طالوت بن عباد ، حدثنا الحارث بن عبيد ، عن ثابت ، عن أنس ، قال : قالوا : يا رسول الله إنا نكون عندك على حال ، فإذا فارقناك كنا على غيره . قال : " كيف أنتم وربكم ? " قالوا : الله ربنا في السر والعلانية . قال : " ليس ذلكم النفاق " . .
فالصلة بالله هي الأصل . فمتى انعقدت في القلب فهو مؤمن صادق موصول .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ الّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ * وَأَسِرّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُواْ بِهِ إِنّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ } .
يقول تعالى ذكره : إن الذين يخافون ربهم بالغيب : يقول : وهم لم يرَوْه لَهَمْ مَغْفِرَةً يقول : لهم عفو من الله عن ذنوبهم وأجْرٌ كَبِيرٌ يقول : وثواب من الله لهم على خشيتهم إياه بالغيب جزيل .
ثم وصف تعالى أهل الإيمان ، وهم { الذين يخشون ربهم } ، وقوله تعالى : { بالغيب } يحتمل معنيين ، أحدهما : { بالغيب } الذي أخبروا به من الحشر والصراط والميزان والجنة والنار ، فآمنوا بذلك ، وخشوا ربهم فيه ، ونحا إلى هذا قتادة . والمعنى الثاني : أنهم يخشون ربهم إذا غابوا عن أعين الناس ، أي في خلواتهم ، ومنه تقول العرب : فلان سالم الغيب ، أي لا يضر ، فالمعنى يعملون بحسب الخشية في صلاتهم وعباداتهم وانفرادهم ، فالاحتمال الأول : مدح بالإخلاص والإيمان ، والثاني : مدح بالأعمال الصالحة في الخلوات ، وذلك أحرى أن يعملوها علانية .
اعتراض يفيد استئنافاً بيانياً جاء على سنن أساليب القرآن من تعقيب الرهبة بالرغبة ، فلما ذكر ما أعد للكافرين المعرضين عن خشية الله أعقبه بما أعد للذين يخشون ربهم بالغيب من المغفرة والثواب للعلم بأنهم يترقبون ما يميزهم عن أحوال المشركين .
وقدم المغفرة تطميناً لقلوبهم لأنهم يخشون المؤاخذة على ما فرط منهم من الكفر قبل الإسلام ومن اللمم ونحوه ، ثم أعقبت بالبشارة بالأجر العظيم ، فكان الكلام جارياً على قانون تقديم التخلية على التحْلية ، أو تقديم دفع الضر على جلب النفع ، والوصف بالكبير بمعنى العظيم نظير ما تقدم آنفاً في قوله : { إن أنتم إلاّ في ضلال كبير } [ الملك : 9 ] .
وتنكير { مغفرة } للتعظيم بقرينة مقارنته ب { أجر كبير } وبقرينة التقديم .
وتقديم المسند على المسند إليه في جملة { لهم مغفرة } ليتأتى تنكير المبتدأ ، ولإِفادة الاهتمام ، وللرعاية على الفاصلة وهي نُكت كثيرة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم أخبر الله تعالى عن المؤمنين، وما أعد لهم في الآخرة، فقال: {إن الذين يخشون ربهم بالغيب} ولم يروه، فآمنوا؛ {لهم مغفرة} لذنوبهم {وأجر كبير} يعني جزاء كبيرا في الجنة...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
إن الذين يخافون ربهم بالغيب، وهم لم يرَوْه.
"لَهَمْ مَغْفِرَة": لهم عفو من الله عن ذنوبهم.
"وأجْرٌ كَبِيرٌ ": وثواب من الله لهم على خشيتهم إياه بالغيب جزيل.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إن الذين يخشون ربهم بالغيب}... الخشية تقتضي الرجاء والخوف ليس كالأمن والإياس الذي لا يقتضي كل واحد منهما إلا وجها واحدا. وإذا كانت الخشية تقتضي ما ذكرنا، فكل مؤمن يخاف عذاب الله تعالى، لما رأى من كثرة نعم الله تعالى وغفلته عن حقوق تلك النعم، لأن من حقها أن يشكر الله تعالى عليها، وقد عرف كل مؤمن تقصيره في أداء الشكر وتفريطه في قضاء الحقوق، فيرجو رحمته لما عرف من سعة رحمته، وعرفه مفضلا عفوا غفورا. لكن فيهم تفاوت في الخشية والرهبة. فمن كان أذكر لغفلته فهو لعقوبته أكثر خشية، ومن كان أقل ذكرا لغفلته فهو أقل خشية، فيتفاوتون على تفاوتهم في الذكر، وهو كالموت الذي يرهبه الناس جميعا، ويتيقنون بحلوله، لكنهم يتفاوتون في ذلك؛ فمن كان له أكثر ذكرا، كان أبلغ في التيقظ وأكثر رهبة، ومن كان أغفل عن ذكره فهو أقل رهبة...
{لهم مغفرة وأجر كبير} أي من يرجو الله تعالى، ويخافه، فله مغفرة لذنوبه وأجر كبير، وهو الجنة...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
لما وصف الله تعالى الكفار وما أعده لهم من أليم العقاب، ذكر المؤمنين وما أعده لهم من جزيل الثواب، فقال (إن الذين يخشون ربهم) أي يخافون عذاب ربهم باتقاء معاصيه وفعل طاعاته (بالغيب) أي على وجه الاستسرار بذلك، لأن الخشية متي كانت بالغيب على ما قلناه كانت بعيدة من النفاق، وخالصة لوجه الله...
وقوله (لهم مغفرة وأجر كبير) أي لمن خشي الله واتقاه بالغيب، ستر الله على معاصيه، ولهم ثواب كبير لا فناء له. وقيل: معنى (يخشون ربهم بالغيب) أي يخافونه... وكل من خشي ربه بالغيب خشيه بالشهادة، وليس كل من خشيه بالشهادة يخشى بالغيب...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم وصف تعالى أهل الإيمان، وهم {الذين يخشون ربهم}، وقوله تعالى: {بالغيب} يحتمل معنيين؛
أحدهما: {بالغيب} الذي أخبروا به من الحشر والصراط والميزان والجنة والنار، فآمنوا بذلك، وخشوا ربهم فيه، ونحا إلى هذا قتادة.
والمعنى الثاني: أنهم يخشون ربهم إذا غابوا عن أعين الناس، أي في خلواتهم، ومنه تقول العرب: فلان سالم الغيب، أي لا يضر، فالمعنى يعملون بحسب الخشية في صلاتهم وعباداتهم وانفرادهم، فالاحتمال الأول: مدح بالإخلاص والإيمان، والثاني: مدح بالأعمال الصالحة في الخلوات، وذلك أحرى أن يعملوها علانية...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{إن الذين يخشون} أي يخافون خوفاً أرق قلوبهم وأرق غيرهم، بحيث كانوا كالحب على المقلى لا يقر لهم قرار من توقعهم العقوبة، كلما ازدادوا طاعة ازدادوا خشية، يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة، فوقوا أنفسهم فوران النار بهم، وعدل عن سياق الجلالة الجامع إلى صفة الإحسان تنبيهاً على أنهم غلب عليهم النظر إلى الإحسان فقادهم إلى الشكر، فقال: {ربهم} الذي أحسن إليهم بتطويرهم بما جعل لهم من الأسباب في أطوار الخير، وإذا كانوا يخشونه مع نظرهم إلى صفة إحسانه، فما ظنك بهم عند النظر إلى صفات انتقامه. {بالغيب} أي حال كونهم غائبين عنه سبحانه، ووعيده غائباً عنهم، وهم غائبون عن أعين الناس، وقد ملأ الخوف ما غاب منهم عن الناس وهي قلوبهم، فهم مع الناس يتكلمون وقلوبهم تتلظى بنيران الخوف وتكلم بسيوف الهيبة، فيتركون المعصية حيث لا يراهم أحد من الناس، ولا يكون لهم هذا إلا برياضة عظيمة لما عند الناس من القوى الموجبة للطغيان، قال بعض العارفين: في الإنسان خواص تستدعي العلم بما يشوبها من الحظوظ فتنشأ منها -والعياذ بالله- المنازعة في الكبرياء والعظمة والجلال والجمال، فالقلب يستدعي التفرد بالوجود والأمر والنهي، فما من أحد إلا وهو مستبطن ما قال فرعون، ولكن لا يجد له مجالاً كما وجد فرعون. والعقل يستدعي في تدبيره وتأثيره اعتقاد أنه لو مكن من الوجود لدبره، ويرى أن تدبيره هو التدبير وإن كان أفسد الفاسد، وكذلك لا يزال يقول: لو كان كذا لكان كذا. والنفس لتتخيل أنها من القوة والاقتدار بحيث لو أرادت أن تخرب مدناً وتبنيها فعلت، فليحذر الإنسان فإن أعدى عدوه نفسه التي هي بين جنبيه، فمهما تركها انتشرت، قال تعالى {كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى} [العلق: 6 و 7] وينسى ما بعدها {إن إلى ربك الرجعى} [العلق: 8] ولهذا كان بعض الأكاسرة -وكانوا أعقل الملوك- يرتب واحداً يكون وراءه بالقرب منه، يقول له إذا اجتمعت جنوده بعد كل قليل: أنت عبد، لا يزال يكرر ذلك، والملك يقول له كلما قاله: نعم، فعلى العاقل أن يطوع نفسه لأن ترجع مطمئنة بأن يرضى بالله رباً ليدخل في رق العبودية، وبالإسلام ديناً ليصير عريقاً فيها، فلا ينازع الملك في ردائه الكبرياء وإزاره العظمة وتاجه الجلال وحلته الجمال، ولا ينازعه فيما يدبره من الشرائع، ويظهره من المعارف، ويحكم به على عبيده من قضائه وقدره.
ولما كانت الخشية مشيرة إلى الذنوب، فكان أهم ما إليهم الإراحة منها قال تعالى: {لهم مغفرة} أي سترة عظيمة تأتي على جميع ذنوبهم. ولما كان السرور إنما يتم بالإعطاء قال: {وأجر} أي من فضل الله {كبير} يكون لهم به من الإكرام ما ينسيهم ما قاسوه في الدنيا من شدائد الآلام، وتصغر في جنبه لذائذ الدنيا العظام...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ووصل القلب بالله في السر والخفية، وبالغيب الذي لا تطلع عليه العيون، هو ميزان الحساسية في القلب البشري وضمانة الحياة للضمير.. قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده: حدثنا طالوت بن عباد، حدثنا الحارث بن عبيد، عن ثابت، عن أنس، قال: قالوا: يا رسول الله إنا نكون عندك على حال، فإذا فارقناك كنا على غيره. قال: "كيف أنتم وربكم؟ " قالوا: الله ربنا في السر والعلانية. قال: " ليس ذلكم النفاق " فالصلة بالله هي الأصل. فمتى انعقدت في القلب فهو مؤمن صادق موصول...