الآية 12 وقوله تعالى : { إن الذين يخشون ربهم بالغيب } [ يحتمل ]{[21675]} { إن الذين يخشون } عذاب ربهم ، والعذاب عنهم غائب ؛ فأهل الإسلام يخشون عذاب الله ، وهو غائب عنهم ، والكفرة لا يخشونه إلا أن يعاينوه{[21676]} .
وجائز أن يكون قوله عز وجل : { يخشون ربهم بالغيب } أي يخشون الله تعالى أن يعذبهم ، أو يخشونه{[21677]} في ما أوعدهم .
ثم الأصل أن ما من مؤمن بالبعث سوى المعتزلة إلا وهو يخشى الله تعالى . لكنهم يتفاوتون في الخشية .
ثم الخشية تقتضي الرجاء والخوف ليس كالآخر ، والإياس الذي لا يقتضي كل واحد منهما إلا وجها واحدا .
وإذا كانت الخشية تقتضي ما ذكرنا ، فكل مؤمن يخاف عذاب الله تعالى ، لما رأى من كثرة نعم الله تعالى وغفلته عن حقوق تلك النعم ، لأن من حقها أن يشكر الله تعالى عليها ، وقد عرف كل مؤمن تقصيره في أداء الشكر وتفريطه في قضاء الحقوق ، فيرجو رحمته لما عرف من سعة رحمته ، وعرفه مفضلا عفوا غفورا . لكن فيهم تفاوت في الخشية و والرهبة .
فمن كان أذكر{[21678]} لغفلته فهو لعقوبته أكثر خشية ، ومن كان أقل ذكرا لغفلته فهو أقل خشية ، فيتفاوتون على تفاوتهم في الذكر ، وهو كالموت الذي يرهبه الناس جميعا ، ويتيقنون بحلوله ، لكنهم يتفاوتون في ذلك ؛ فمن كان له أكثر ذكرا كان أبلغ في التيقظ وأكثر رهبة ، ومن كان أغفل عن ذكره فهو أقل رهبة .
ولقائل أن يقول : كيف جعلتم كل مؤمن خائفا راجيا ، والراجي ، هو الذي يطلب ، والخائف ، هو الذي يهرب ؟ فكل من رجا شيئا يعلم أنه لا وصول إليه إلا بأعمال وأسباب ، فهو يقوم بتلك الأعمال بغاية ما يحمله وسعه ليصل إلى مأموله ، وإذا لم يكن راجيا في الحقيقة ، بل كان متمنيا . وكذلك من خاف حقيقة الخوف ، وعلم أن المخوف نازل به إن لم يهرب مما يخافه أشد الهرب .
ثم كثير من المؤمنين تراهم مقصرين في الأعمال التي يتوصل بها إلى بلوغ الآمال ، ولا يهربون مما يخاف منه أشد الهرب وغاية الخوف ، فكيف وصفتم كل مؤمن بالخوف والرجاء ، وكثير منهم لا يتحقق فيهم هذا الوصف ؟
واستدل على صحة ما ذكر بقوله تعالى : { إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمت الله } [ البقرة : 218 ] فالراجي رحمة الله من دأب في طاعته ، وقوله{[21679]} تعالى : { والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة } [ المؤمنون : 60 ] فقيل : يا رسول الله أهم الذين يزنون ، ويسرقون ؟ فقال : بل هم الذين يصومون ، ويصلون { وقلوبهم وجلة } وقوله{[21680]} تعالى : { وهم من خشيته مشفقون } [ الأنبياء : 28 ] .
فجوابه أن المؤمن ليس يرى كل خلاصه من العذاب وأمنه من العقاب بعمله ، حتى إذا وجد التقصير في العمل أظهر ذلك المعنى فساد الرجاء والخوف ، وإنما يتوقع خلاصه بعفو الله تعالى ، ويرجو رحمته بكرمه وجوده ؛ لذلك لم يوجب التقصير في العمل إبطال الرجاء والخوف . هذا إذا كان غير معتزلي المذهب ، ولم يكن من الخوارج .
أما إذا كان الراجي والخائف أحد هذين ، فتقصيره في العمل يدل على فساد الرجاء والخوف ، لأن كل واحد منهما ، ليس يرى لنفسه شفيعا إلا عمله ، به ينجو ، وبه يهلك . فإذا لم يبالغ في الطلب من جهة العمل ، ولم يبالغ في الهرب من الخوف بالعمل ، ظهر أنه ليس براج ، ولكنه متمن ، ويتبين أنه غير خائف في الحقيقة .
ثم المعتزلة ، لا يخافون الله تعالى ، ولا يرجون رحمته في الحقيقة ، لأنهم يزعمون أن العبد إذا ارتكب الكبيرة ، فليس لله تعالى ألا يعذبه عليها وأن يغفرها له ، وإذا اجتنب الكبيرة استوجب المغفرة ، وإن ارتكب الصغائر ليس لله تعالى أن يعذبه عليها .
والقائل بهذا غير راج رحمة الله تعالى ، ولا خائف من عذابه ، وإنما يقع الخوف والرجاء من عند نفسه ، لأن الزلة التي استوجب بها العذاب ، هو الذي اكتسبها ، ولو لم يعملها لم يعذب ، وفاز بالنجاة ، فصار رجاؤه وخلاصه بعمله لا برحمة الله تعالى وفضله ، ولا بذلك وصف الله تعالى وفضله ، ولا بذلك وصف الله تعالى المؤمنين في كتابه ، ولأن الله تعالى أثنى على الذين يدعونه خوفا ورغبا ورهبا .
وعلى قول أهل الاعتزال ، لا يدعو أحد ربه على الرغبة والرهبة والخوف والطمع ، لأن الداعي إن كان صاحب كبيرة ، فهو في ما يدعو الله تعالى ليغفر له إنما يدعو ليجور عليه ؛ إذ لا يسعه أن يغفر له ، ولا [ أن ]{[21681]} يعذب عليه . فدعاؤه بالمغفرة معناه يقتضي [ أن يجور عليه ]{[21682]} وذلك عظيم .
وإن كان صاحب صغيرة ، فهو في ما يطلب المغفرة منه تعالى يسأله ألا يجور عليه ، لأنه ليس له أن يعذب على الصغائر على مذهبه /583- ب/ ولو عذب صار به جائرا .
فإذا خاف عذابه حتى إذا فرغ إلى الدعاء خاف جوره ، ومن لم يأمن من ربه الجور ، بل خاف ذلك منه ، فهو لم يعرف ربه حقيقة المعرفة .
وكذلك من دعا الله تعالى ليجور عليه فقد دعا إلى أن يسفّه ، والسفيه لا يصلح أن يكون إلها . فثبت أن الداعي على الرغبة والرهبة غير ممدوح عندهم ، ولا هو ممن يستحق الثناء عليه .
وقوله تعالى : { لهم مغفرة وأجر كبير } أي من يرجو الله تعالى ، ويخافه ، فله مغفرة لذنوبه وأجر كبير ، وهو الجنة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.