تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يَخۡشَوۡنَ رَبَّهُم بِٱلۡغَيۡبِ لَهُم مَّغۡفِرَةٞ وَأَجۡرٞ كَبِيرٞ} (12)

الآية 12 وقوله تعالى : { إن الذين يخشون ربهم بالغيب } [ يحتمل ]{[21675]} { إن الذين يخشون } عذاب ربهم ، والعذاب عنهم غائب ؛ فأهل الإسلام يخشون عذاب الله ، وهو غائب عنهم ، والكفرة لا يخشونه إلا أن يعاينوه{[21676]} .

وجائز أن يكون قوله عز وجل : { يخشون ربهم بالغيب } أي يخشون الله تعالى أن يعذبهم ، أو يخشونه{[21677]} في ما أوعدهم .

ثم الأصل أن ما من مؤمن بالبعث سوى المعتزلة إلا وهو يخشى الله تعالى . لكنهم يتفاوتون في الخشية .

ثم الخشية تقتضي الرجاء والخوف ليس كالآخر ، والإياس الذي لا يقتضي كل واحد منهما إلا وجها واحدا .

وإذا كانت الخشية تقتضي ما ذكرنا ، فكل مؤمن يخاف عذاب الله تعالى ، لما رأى من كثرة نعم الله تعالى وغفلته عن حقوق تلك النعم ، لأن من حقها أن يشكر الله تعالى عليها ، وقد عرف كل مؤمن تقصيره في أداء الشكر وتفريطه في قضاء الحقوق ، فيرجو رحمته لما عرف من سعة رحمته ، وعرفه مفضلا عفوا غفورا . لكن فيهم تفاوت في الخشية و والرهبة .

فمن كان أذكر{[21678]} لغفلته فهو لعقوبته أكثر خشية ، ومن كان أقل ذكرا لغفلته فهو أقل خشية ، فيتفاوتون على تفاوتهم في الذكر ، وهو كالموت الذي يرهبه الناس جميعا ، ويتيقنون بحلوله ، لكنهم يتفاوتون في ذلك ؛ فمن كان له أكثر ذكرا كان أبلغ في التيقظ وأكثر رهبة ، ومن كان أغفل عن ذكره فهو أقل رهبة .

ولقائل أن يقول : كيف جعلتم كل مؤمن خائفا راجيا ، والراجي ، هو الذي يطلب ، والخائف ، هو الذي يهرب ؟ فكل من رجا شيئا يعلم أنه لا وصول إليه إلا بأعمال وأسباب ، فهو يقوم بتلك الأعمال بغاية ما يحمله وسعه ليصل إلى مأموله ، وإذا لم يكن راجيا في الحقيقة ، بل كان متمنيا . وكذلك من خاف حقيقة الخوف ، وعلم أن المخوف نازل به إن لم يهرب مما يخافه أشد الهرب .

ثم كثير من المؤمنين تراهم مقصرين في الأعمال التي يتوصل بها إلى بلوغ الآمال ، ولا يهربون مما يخاف منه أشد الهرب وغاية الخوف ، فكيف وصفتم كل مؤمن بالخوف والرجاء ، وكثير منهم لا يتحقق فيهم هذا الوصف ؟

واستدل على صحة ما ذكر بقوله تعالى : { إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمت الله } [ البقرة : 218 ] فالراجي رحمة الله من دأب في طاعته ، وقوله{[21679]} تعالى : { والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة } [ المؤمنون : 60 ] فقيل : يا رسول الله أهم الذين يزنون ، ويسرقون ؟ فقال : بل هم الذين يصومون ، ويصلون { وقلوبهم وجلة } وقوله{[21680]} تعالى : { وهم من خشيته مشفقون } [ الأنبياء : 28 ] .

فجوابه أن المؤمن ليس يرى كل خلاصه من العذاب وأمنه من العقاب بعمله ، حتى إذا وجد التقصير في العمل أظهر ذلك المعنى فساد الرجاء والخوف ، وإنما يتوقع خلاصه بعفو الله تعالى ، ويرجو رحمته بكرمه وجوده ؛ لذلك لم يوجب التقصير في العمل إبطال الرجاء والخوف . هذا إذا كان غير معتزلي المذهب ، ولم يكن من الخوارج .

أما إذا كان الراجي والخائف أحد هذين ، فتقصيره في العمل يدل على فساد الرجاء والخوف ، لأن كل واحد منهما ، ليس يرى لنفسه شفيعا إلا عمله ، به ينجو ، وبه يهلك . فإذا لم يبالغ في الطلب من جهة العمل ، ولم يبالغ في الهرب من الخوف بالعمل ، ظهر أنه ليس براج ، ولكنه متمن ، ويتبين أنه غير خائف في الحقيقة .

ثم المعتزلة ، لا يخافون الله تعالى ، ولا يرجون رحمته في الحقيقة ، لأنهم يزعمون أن العبد إذا ارتكب الكبيرة ، فليس لله تعالى ألا يعذبه عليها وأن يغفرها له ، وإذا اجتنب الكبيرة استوجب المغفرة ، وإن ارتكب الصغائر ليس لله تعالى أن يعذبه عليها .

والقائل بهذا غير راج رحمة الله تعالى ، ولا خائف من عذابه ، وإنما يقع الخوف والرجاء من عند نفسه ، لأن الزلة التي استوجب بها العذاب ، هو الذي اكتسبها ، ولو لم يعملها لم يعذب ، وفاز بالنجاة ، فصار رجاؤه وخلاصه بعمله لا برحمة الله تعالى وفضله ، ولا بذلك وصف الله تعالى وفضله ، ولا بذلك وصف الله تعالى المؤمنين في كتابه ، ولأن الله تعالى أثنى على الذين يدعونه خوفا ورغبا ورهبا .

وعلى قول أهل الاعتزال ، لا يدعو أحد ربه على الرغبة والرهبة والخوف والطمع ، لأن الداعي إن كان صاحب كبيرة ، فهو في ما يدعو الله تعالى ليغفر له إنما يدعو ليجور عليه ؛ إذ لا يسعه أن يغفر له ، ولا [ أن ]{[21681]} يعذب عليه . فدعاؤه بالمغفرة معناه يقتضي [ أن يجور عليه ]{[21682]} وذلك عظيم .

وإن كان صاحب صغيرة ، فهو في ما يطلب المغفرة منه تعالى يسأله ألا يجور عليه ، لأنه ليس له أن يعذب على الصغائر على مذهبه /583- ب/ ولو عذب صار به جائرا .

فإذا خاف عذابه حتى إذا فرغ إلى الدعاء خاف جوره ، ومن لم يأمن من ربه الجور ، بل خاف ذلك منه ، فهو لم يعرف ربه حقيقة المعرفة .

وكذلك من دعا الله تعالى ليجور عليه فقد دعا إلى أن يسفّه ، والسفيه لا يصلح أن يكون إلها . فثبت أن الداعي على الرغبة والرهبة غير ممدوح عندهم ، ولا هو ممن يستحق الثناء عليه .

وقوله تعالى : { لهم مغفرة وأجر كبير } أي من يرجو الله تعالى ، ويخافه ، فله مغفرة لذنوبه وأجر كبير ، وهو الجنة .


[21675]:من م، ساقطة من الأصل.
[21676]:الهاء ساقطة من الأصل و م
[21677]:في الأصل و م: أن يخشوه
[21678]:في الأصل و م: إذا ذكر
[21679]:في الأصل و م: وقال.
[21680]:في الأصل و م: وقال.
[21681]:ساقطة من الأصل و م.
[21682]:في الأصل و م: أن جر على