{ وَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً * وَيَصْلَىَ سَعِيراً * إِنّهُ كَانَ فِيَ أَهْلِهِ مَسْرُوراً * إِنّهُ ظَنّ أَن لّن يَحُورَ * بَلَىَ إِنّ رَبّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً } .
يقول تعالى ذكره : وأما من أعطي كتابه منكم أيها الناس يومئذٍ وراء ظهره ، وذلك أن جعل يده اليمنى إلى عنقه ، وجعل الشمال من يديه وراء ظهره ، فيتناول كتابه بشماله من وراء ظهره ، ولذلك وصفهم جلّ ثناؤه أحيانا ، أنهم يُؤْتَوْن كتُبَهُم بشمائلهم ، وأحيانا أنهم يُؤتَوْنَها من وراء ظهورهم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمر ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ قال : يجعل يده من وراء ظهره .
والكافر يؤتى كتابه من ورائه لأن يديه مغلولتان ، وروي أن يده تدخل من صدره حتى تخرج من وراء ظهره ، فيأخذ كتابه بها ، ويقال إن هاتين الآيتين نزلتا في أبي سلمة بن عبد الأسد{[11709]} ، وكان أبو سلمة من أفضل المؤمنين ، وأخوه من عتاة الكافرين
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وأما من أعطي كتابه منكم أيها الناس يومئذٍ وراء ظهره... فيتناول كتابه بشماله من وراء ظهره، ولذلك وصفهم جلّ ثناؤه أحيانا، أنهم يُؤْتَوْن كتُبَهُم بشمائلهم، وأحيانا أنهم يُؤتَوْنَها من وراء ظهورهم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
فالإيتاء من وراء الظهر يحتمل وجهين:
أحدهما: أن استقذر منه لخبث منظره، فأوتي من وراء ظهره مجازاة له بما سبق من صنعه؛ وصنعه أنه نبذ كتاب الله تعالى وراء ظهره، وترك أوامره ونواهيه كذلك وراء ظهره، فجوزي أيضا بدفع كتابه وراء ظهره، ودفع إلى المؤمن كتابه بيمينه لما في كتابه من المحاسن والبركات، واليمين أنشئت لتستعمل في البركات وأنواع الخير، وسميت أيضا باسم مشتق من اليمن والبركة.
والثاني: أن الشمال جعلت لتستعمل في الأقذار والأجناس، فدفع كتابه من حيث عمله إليه بشماله أيضا أو من وراء ظهره، لأن أهل الإيمان قبلوا أمور الله تعالى ونواهيه، واستقبلوها بالتعظيم والتبجيل؛ ومن أراد تعظيم الآخر في الشاهد وتبجيله أخذه بيمينه، فجوزوا في الآخرة بالتعظيم لهم بأن أوتوا كتبهم بأيمانهم. وأما الكافر بأنه استخف بأمر الله تعالى وطاعته فجوزي في الآخرة بأن أوتي كتابه بشماله التي تستعمل في الأقذار إهانة وتحقيرا...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وأما من أوتي} أي بغاية السهولة وإن أبى هو ذلك {كتابه} أي صحيفة حسابه {وراء ظهره} أي في شماله إيتاء مستغرقاً لجميع جهة الوراء التي هي علم السوء، لأنه كان يعمل ما لم يأذن به الله، فكأنه عمل من ورائه مما يظن أنه يخفى عليه سبحانه، فكان حقيقاً بأن تغل يمينه إلى عنقه، وتكون شماله إلى- وراء ظهره، ويوضع كتابه فيها...
ذكر اليمين أولاً يدل على الشمال ثانياً، وذكر الوراء ثانياً- يدل على الأمام أولاً، وسر ذلك أنه ذكر دليل المودة والرفق بالمصافحة ونحوها في السعيد، ودليل الغدر والاغتيال في الشقي...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والذي ألفناه في تعبيرات القرآن من قبل هو كتاب اليمين وكتاب الشمال. فهذه صورة جديدة: صورة إعطاء الكتاب من وراء الظهر. وليس يمتنع أن يكون الذي يعطى كتابه بشماله يعطاه كذلك من وراء ظهره. فهي هيئة الكاره المكره الخزيان من المواجهة! ونحن لا ندري حقيقة الكتاب ولا كيفية إيتائه باليمين أو بالشمال أو من وراء الظهر. إنما تخلص لنا حقيقة النجاة من وراء التعبير الأول؛ وحقيقة الهلاك من وراء التعبير الثاني. وهما الحقيقتان المقصود أن نستيقنهما. وما وراء ذلك من الأشكال إنما يحيي المشهد ويعمق أثره في الحس، والله أعلم بحقيقة ما يكون كيف تكون! فهذا التعيس الذي قضى حياته في الأرض كدحا، وقطع طريقه إلى ربه كدحا -ولكن في المعصية والإثم والضلال- يعرف نهايته، ويواجه مصيره، ويدرك أنه العناء الطويل بلا توقف في هذه المرة ولا انتهاء...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
ولعل التعبير بإيتائه كتابه وراء ظهره، واردٌ على سبيل الكناية التعبيرية عن أن مضمون هذا الكتاب لا يمثل العمل الذي يقدِّمه الإنسان بين يديه، كما يفعل الواثقون بالنتائج الحسنة لأعمالهم فرحاً بها، بل يمثل العمل الذي يطرحه الإنسان وراء ظهره ليخفيه عن الناس، جزعاً منه، أو العمل الذي يبقى في الدنيا لأنه لا نصيب له في الآخرة، فكأنه تركه وراء ظهره...
وعلى أيّ حالٍ، فإن هذا الإنسان الذي يؤتى كتابه بهذه الطريقة، يراد به الإنسان الذي قضى كل عمره في الجهد والتعب والمشقة في معصية الله والتّمردّ على رسله، فهو الذي يشعر بالتعاسة والبؤس والشقاء، لأن ما حصل عليه من اللذة في الدنيا، قد تحوّل إلى الألم الكبير في الآخرة، وأنّ ما كان يخيّل إليه من أوضاع السعادة، قد تحوّل إلى أوضاع الشقاء...