( إذ دخلوا عليه فقالوا : سلاما . قال : إنا منكم وجلون . قالوا : لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم . قال : أبشرتموني على أن مسني الكبر ? فبم تبشرون ? قالوا : بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين . قال : ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون ? ) .
قالوا : سلاما . قال : إنا منكم وجلون . . ولم يذكر هنا سبب قوله ، ولم يذكر أنه جاءهم بعجل حنيذ ( فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة ) . . كما جاء في سورة هود . ذلك أن المجال هنا هو مجال تصديق الرحمة التي ينبيء الله بها عباده على لسان رسوله ، لا مجال تفصيلات قصة إبراهيم . .
وقوله { سلاماً } مصدر منصوب بفعل مضمر تقديره سلمنا أو نسلم سلاماً ، والسلام هنا التحية ، وقوله { سلاماً } حكاية قولهم فلا يعمل القول فيه ، وإنما يعمل إذا كان ما بعده ترجمة عن كلام ليس يحكى بعينه كما تقول لمن قال لا إله إلا الله قلت حقاً ونحو هذا وقوله { إنا منكم وجلون } أي فزعون ، وإنما وجل إبراهيم عليه السلام منهم لما قدم إليهم العجل الحنيذ فلم يرهم يأكلون ، وكانت عندهم العلامة المؤمنة أكل الطعام ، وكذلك هو في غابر الدهر أمنة للنازل والمنزول به .
جملة { قال إنا منكم وجلون } جاءت مفصولة بدون عطف لأنها جواب عن جملة { فقالوا سلاماً } . وقد طوي ذكر رده السلام عليهم إيجازاً لظهوره . صُرح به في قوله : { قال سلام قوم منكرون } [ سورة الذاريات : 25 ] ، أي قال إنا منكم وجلون بعد أن رد السلام . وفي سورة هود أنه أوجس منهم خِيفة حين رآهم لم يمدّوا أيديهم للأكل .
وضمير { إنا } من كلام إبراهيم عليه السلام فهو يعني به نفسه وأهله ، لأن الضيف طرقوا بيتهم في غير وقت طروق الضيف فظنّهم يريدون به شراً ، فلما سلموا عليه فاتحهم بطلب الأمْن ، فقال : { إنا منكم وجلون } ، أي أخفتمونا . وفي سورة الذاريات أنه قال لهم : { قوم منكرون } [ سورة الحجر : 25 ] .
والوجِل : الخائف . والوجَل بفتح الجيم الخوف . ووقع في سورة هود ( 70 ) { نكِرهم وأوجس مِنهم خِيفة } وقد جُمع في هذه الآية متفرق كلام الملائكة ، فاقتصر على مجاوبتهم إياه عن قوله : { إنا منكم وجلون } ، فنِهاية الجواب هو { لا توجل } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إذ دخلوا عليه} على إبراهيم، {فقالوا سلاما} فسلموا عليه وسلم عليهما، {قال إنا منكم وجلون}، يعني: خائفين، وذلك أن إبراهيم، عليه السلام، قرب إليهم العجل، فلم يأكلوا منه، فخاف إبراهيم، عليه السلام، وكان في زمان إبراهيم، عليه السلام، إذا أكل الرجل عند الرجل طعاما، أمن من شره، فلما رأى إبراهيم، عليه السلام، أيديهم لا تصل إلى العجل، خاف شرهم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"فَقالُوا سَلاما" يقول: فقال الضيف لإبراهيم: سلاما.
"قال إنّا مِنْكُمْ وجِلُونَ" يقول: قال إبراهيم: إنا منكم خائفون.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما}... وقال أبو بكر الأصم: السلام: جعله الله أمانا بين الخلق وعطفا فيما بينهم وسببا لإخراج الضغائن من قلوبهم.
وقال بعضهم: جعل الله السلام تحية كل داخل على آخر؛ وهو ما ذكرناه.
وقال بعضهم: السلام هو اسم كل خير وبر وبركة كقوله: {لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما} (مريم: 62) والله أعلم.
{قال إنا منكم وجلون} أي خائفون. قال بعض أهل التأويل: إنما خاف لأنه ظن أنهم لصوص وأهل ريبة. لكن هذا لا يحتمل أن يخاف منهم، ويظن أنهم لصوص وأهل ريبة، وقد سلموا عليه وقت ما دخلوا عليه، واللصوص وأهل الريبة إذا دخلوا بيت آخر، لا يسلمون عليه، لكنه إنما خافهم إذ رأى أيديهم لا تصل إليه كما قال: {فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة} (هود: 70) عند ذلك خافهم. فلما رأى ذلك ظن إبراهيم أنهم ملائكة إنما جاؤوا لأمر عظيم حين لم يتناولوا مما قرب إليهم، وبين إبراهيم وبين المكان الذي يرتحل منه مكان تقع لهم الحاجة إلى الطعام.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
... وسماهم ضيفا، وهم ملائكة، لأنهم دخلوا بصورة البشر.
"فقالوا سلاما"... المعنى: سلمت سلاما على وجه الدعاء، والتحية.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
فلمَّا سلموا من جانبهم وردَّ عليهم وانْفَضُّوا عن تناولِ طعامِه: قوله جلّ ذكره: {قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ}.
وَجلون أي خائفون، فإنَّ الإمساكَ عن تناول طعام الكرام موضعٌ للريبة. ولمَّا عَلِمَ أنهم ملائكة خاف أن يكونوا نزلوا لتعذيب قومه إذ كانوا مجرمين...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{إذ دخلوا عليه} أي إبراهيم عليه السلام {فقالوا} أي عقب الدخول {سلاماً}. ولما كان طلبهم في هذه الصورة للملائكة على وجه أوكد مما في سورة هود عليه السلام، أشار لهم إلى ما في رؤية الملائكة من الخوف ولو كانوا مبشرين وفي أحسن صورة من صور البشر -بقوله: {قال} بلسان الحال أو القال: {إنا} أي أنا ومن عندي {منكم وجلون} وأسقط ذكر جوابه بالسلام، ولا يقدح ذلك فيما في سورة هود وغيرها من ذكره، فإن إذ ظرف زمان بمعنى حين، والحين قد يكون واسعاً، فيذكر ما فيه تارة جميعه على ترتيبه، وأخرى على غير ذلك، وتارة بعضه مع إسقاط البعض مع صدق جميع وجوه الإخبار لكونه كان مشتملاً على الجميع، وتكون هذه التصرفات على هذه الوجوه لمعانٍ يستخرجها من أراد الله.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} أي خائفون، فإن الوجلَ اضطرابُ النفس لتوقع مكروهٍ، قاله عليه الصلاة والسلام حين امتنعوا من أكل ما قرّبه إليهم من العجل الحنيذ، لِما أن المعتاد عندهم أنه إذا نزل بهم ضيفٌ فلم يأكلْ من طعامهم ظنوا أنه لم يجئ بخير، لا عند ابتداء دخولهم لقوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} فلا مجال لكون خوفه عليه الصلاة والسلام بسبب دخولِهم بغير إذن ولا بغير وقت، إذ لو كان كذلك لأجابوا حينئذ بما أجابوا.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
...لم يذكر هنا سبب قوله، ولم يذكر أنه جاءهم بعجل حنيذ (فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة).. كما جاء في سورة هود. ذلك أن المجال هنا هو مجال تصديق الرحمة التي ينبئ الله بها عباده على لسان رسوله، لا مجال تفصيلات قصة إبراهيم..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة {قال إنا منكم وجلون} جاءت مفصولة بدون عطف لأنها جواب عن جملة {فقالوا سلاماً}. وقد طوي ذكر رده السلام عليهم إيجازاً لظهوره. صُرح به في قوله: {قال سلام قوم منكرون} [سورة الذاريات: 25]، أي قال إنا منكم وجلون بعد أن رد السلام. وفي سورة هود أنه أوجس منهم خِيفة حين رآهم لم يمدّوا أيديهم للأكل. وضمير {إنا} من كلام إبراهيم عليه السلام فهو يعني به نفسه وأهله، لأن الضيف طرقوا بيتهم في غير وقت طروق الضيف فظنّهم يريدون به شراً، فلما سلموا عليه فاتحهم بطلب الأمْن، فقال: {إنا منكم وجلون}، أي أخفتمونا. وفي سورة الذاريات أنه قال لهم: {قوم منكرون} [سورة الحجر: 25]. والوجِل: الخائف. والوجَل بفتح الجيم الخوف. ووقع في سورة هود (70) {نكِرهم وأوجس مِنهم خِيفة} وقد جُمع في هذه الآية متفرق كلام الملائكة، فاقتصر على مجاوبتهم إياه عن قوله: {إنا منكم وجلون}، فنِهاية الجواب هو {لا توجل}.