{ فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون } وأي : ظلم أعظم من ظلم من يدعى إلى تحكيم كتابه فيمتنع من ذلك عنادا وتكبرا وتجبرا ، وهذا من أعظم الأدلة على صحة نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وقيام الآيات البينات المتنوعات على صدقه وصدق من نبأه وأخبره بما أخبره به من الأمور التي لا يعلمها إلا بإخبار ربه له بها ، فلهذا قال تعالى { قل صدق الله } .
قوله : { فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك } تحتمل الإشارة -بذلك- أن تكون إلى ثلاثة أشياء : أحدها : أن تكون إلى التلاوة إذ مضمنها بيان المذهب وقيام الحجة ، أي فمن كذب منا على الله تعالى أو نسب إلى كتب الله ما ليس فيها فهو ظالم واضع الشيء غير موضعه ، والآخر : أن تكون الإشارة إلى استقرار التحريم في التوراة ، لأن معنى الآية : { كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه } [ آل عمران : 93 ] ، ثم حرمته التوراة عليهم عقوبة لهم ، { فمن افترى على الله الكذب } ، وزاد في المحرمات فهو الظالم ، والثالث : أن تكون الإشارة إلى الحال بعد تحريم إسرائيل على نفسه ، وقبل نزول التوراة ، أي من تسنن بيعقوب وشرع ذلك دون إذن من الله ، ومن حرم شيئاً ونسبه إلى ملة إبراهيم فهو الظالم ، ويؤيد هذا الاحتمال الأخير ، قوله تعالى { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم }{[3333]} فنص على أنه كان لهم ظلم في معنى التحليل والتحريم ، وكانوا يشددون فشدد الله عليهم ، كما فعلوا في أمر البقرة ، وبخلاف هذه السيرة جاء الإسلام في قوله صلى الله عليه وسلم : ( يسروا ولا تعسروا ) {[3334]} ، وقوله : ( دين الله يسر ) {[3335]} وقوله : ( بعثت بالحنيفية السمحة ){[3336]} .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
يقول الله، عز وجل، يعيبهم: {فمن افترى على الله الكذب}؛ بأن الله حرمه في التوراة، {من بعد ذلك} البيان، {فأولئك هم الظالمون}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني جلّ ثناؤه بذلك: فمن كذب على الله منا ومنكم من بعد مجيئكم بالتوراة، وتلاوتكم إياها، وعَدَمِكُم ما ادّعيتم من تحريم الله العروق ولحوم الإبل وألبانها فيها، {فأُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ}: فمن فعل ذلك منهم {فأُولَئِكَ} يعني فهؤلاء الذين يفعلون ذلك، {هُمُ الظّالِمُونَ}: يعني فهم الكافرون القائلون على الله الباطل. نزلت في اليهود.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
الافتراء: اقتراف الكذب وأصله قطع ما يقدر من الأدم، فقيل للكذب الفرية، لأنه يقطع به على التقدير من غير تحقيق. المعنى: فإن قيل: كيف قال:"افترى على الله الكذب" وعلى للاستعلاء، فما معناها هاهنا؟ قلنا: معناها إضافته الكذب إليه من جهة أنه أمر بما لم يأمر به الله فأوجب ما لم يوجبه، وكذب عليه بخلاف كذب له، لأن كذب عليه يفيد أنه كذب فيما يكرهه، وكذب له قد يجوز فيما يريده. فإن قيل كيف قيد وعيد المفتري على الله الكذب ب "من بعد ذلك "وهو يستحق الوعيد بالكذب عليه على كل حال؟ قلنا: المراد به البيان أنه يلزم من بعد إقامة الحجة على العبد فيه، لأنه لو كذب على الله عز وجل فيما ليس بمحجوج فيه لجرى مجرى كذب الصبي الذي لا يستحق الوعيد به. وإنما وصف المفتري على الله كذبا بأنه ظالم، من حيث كان ظالما لنفسه، ولمن استدعى إلى مذهبه فيما يكذب به، لأن ذلك الكذب يستحق به العقاب. والظلم والجور واحد وإن كان أصلهما مختلفا، لأن أصل الظلم: النقصان للحق. الجور: العدول عن الحق، ولذلك قيل في ضد الظلم: الانصاف. وفي ضد الجور: العدل. والإنصاف هو إعطاء الحق على التمام...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فَمَنِ افترى عَلَى الله الكذب} بزعمه أن ذلك كان محرماً على بني إسرائيل قبل إنزال التوراة من بعد ما لزمهم من الحجة القاطعة، {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون} المكابرون الذين لا ينصفون من أنفسهم ولا يلتفتون إلى البينات...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك} تحتمل الإشارة -بذلك- أن تكون إلى ثلاثة أشياء: أحدها: أن تكون إلى التلاوة إذ مضمنها بيان المذهب وقيام الحجة، أي فمن كذب منا على الله تعالى أو نسب إلى كتب الله ما ليس فيها فهو ظالم واضع الشيء غير موضعه. والآخر: أن تكون الإشارة إلى استقرار التحريم في التوراة، لأن معنى الآية: {كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه} [آل عمران: 93]، ثم حرمته التوراة عليهم عقوبة لهم، {فمن افترى على الله الكذب}، وزاد في المحرمات فهو الظالم. والثالث: أن تكون الإشارة إلى الحال بعد تحريم إسرائيل على نفسه، وقبل نزول التوراة، أي من تسنن بيعقوب وشرع ذلك دون إذن من الله، ومن حرم شيئاً ونسبه إلى ملة إبراهيم فهو الظالم، ويؤيد هذا الاحتمال الأخير، قوله تعالى {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم} فنص على أنه كان لهم ظلم في معنى التحليل والتحريم، وكانوا يشددون فشدد الله عليهم، كما فعلوا في أمر البقرة، وبخلاف هذه السيرة جاء الإسلام في قوله صلى الله عليه وسلم: (يسروا ولا تعسروا)، وقوله: (دين الله يسر) وقوله: (بعثت بالحنيفية السمحة)...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان المراد النهي عن إيقاع الكذب في أي زمن كان، لا عن إيقاعه في جميع الزمان الذي بعد نزول الآية أثبت الجار فقال: {من بعد ذلك} أي البيان العظيم الظاهر جداً {فأولئك} أي الأباعد الأباغض {هم} خاصة لتعمدهم الكذب على من هو محيط بهم ولا تخفى عليه خافية {الظالمون *} أي المتناهو الظلم بالمشي على خلاف الدليل فعل من يمشي في الظلام، فهو لا يضع شيئاً في موضعه، وذلك بتعرضهم إلى أن يهتكهم التام العلم ويعذبهم الشامل القدرة.
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
ثم قال: {فَمَنِ افترى عَلَى الله الكذب مِن بَعْدِ ذَلِكَ} أي: من بعد إحضار التوراة، وتلاوتها {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون} أي: المفرطون في الظلم المتبالغون فيه، فإنه لا أظلم ممن حوكم إلى كتابه، وما يعتقده شرعاً صحيحاً، ثم جادل من بعد ذلك مفترياً على الله الكذب، ثم لما كان ما يفترونه من الكذب بعد قيام الحجة عليهم بكتابهم باطلاً مدفوعاً، وكان ما قصّه الله سبحانه في القرآن، وصدقته التوراة صحيحاً صادقاً، وكان ثبوت هذا الصدق بالبرهان الذي لا يستطيع الخصم دفعه، أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بأن ينادي بصدق الله بعد أن سجل عليهم الكذب، فقال: {قُلْ صَدَقَ الله فاتبعوا مِلَّةَ إبراهيم}...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يهدد من يفتري الكذب منهم على الله بأنه إذن ظالم، لا ينصف الحقيقة، ولا ينصف نفسه، ولا ينصف الناس. وعقاب الظالم معروف، فيكفي أن يوصموا بهذه الوصمة، ليتقرر نوع العذاب الذي ينتظرهم. وهم يفترون الكذب على الله. وهم إليه راجعون.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فمن افترى منكم بعد أن جعلنا التَّوراة فيصلاً بيننا، إذ لم يبق لهم ما يستطيعون أن يدّعُوه شُبهة لهم في الاختلاق، وجُعل الافتراء على الله لتعلّقه بدين الله.
إن في هذا القول التحذير الواضح ألا يختلق أحد على الله شيئا لم ينزل به رسول أو كتاب، فمن يفتري الكذب على الله لا يظلم إلا نفسه.