{ 6 - 14 } { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ }
يقول تعالى : { أَلَمْ تَرَ } بقلبك وبصيرتك كيف فعل بهذه الأمم الطاغية .
أما المقسم عليه بذلك القسم ، فقد طواه السياق ، ليفسره ما بعده ، فهو موضوع الطغيان والفساد ، وأخذ ربك لأهل الطغيان والفساد ، فهو حق واقع يقسم عليه بذلك القسم في تلميح يناسب لمسات السورة الخفيفة على وجه الإجمال :
" ألم تر كيف فعل ربك بعاد ، إرم ذات العماد ، التي لم يخلق مثلها في البلاد ؟ وثمود الذين جابوا الصخر بالواد ؟ وفرعون ذي الأوتاد ؟ . . الذين طغوا في البلاد ، فأكثروا فيها الفساد ، فصب عليهم ربك سوط عذاب ؟ إن ربك لبالمرصاد " . .
وصيغة الاستفهام في مثل هذا السياق أشد إثارة لليقظة والالتفات . والخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ابتداء . ثم هو لكل من تتأتى منه الرؤية أو التبصر في مصارع أولئك الأقوام ، وكلها مما كان المخاطبون بالقرآن أول مرة يعرفونه ؛ ومما تشهد به الآثار والقصص الباقية في الأجيال المتعاقبة ، وإضافة الفعل إلى " ربك " فيها للمؤمن طمأنينة وأنس وراحة . وبخاصة أولئك الذين كانوا في مكة يعانون طغيان الطغاة ، وعسف الجبارين من المشركين ، الواقفين للدعوة وأهلها بالمرصاد .
وقد جمع الله في هذه الآيات القصار مصارع أقوى الجبارين الذين عرفهم التاريخ القديم . . مصرع : " عاد إرم " وهي عاد الأولى . وقيل : إنها من العرب العاربة أو البادية . وكان مسكنهم بالأحقاف وهي كثبان الرمال . في جنوبي الجزيرة بين حضرموت واليمن . وكانوا بدوا ذوي خيام تقوم على عماد .
ولما ذكر هؤلاء وعبادتهم وطاعتهم قال بعده : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ } وهؤلاء كانوا متمردين عتاة جبارين ، خارجين عن طاعته مكذبين لرسله ، جاحدين لكتبه . فذكر تعالى كيف أهلكهم ودمرهم ، وجعلهم أحاديث وعبَرا ، فقال : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ } وهؤلاء عاد الأولى ، وهم أولاد عاد بن إرم بن عَوص بن سام بن نوح ، قاله ابن إسحاق وهم الذين بعث الله فيهم رسوله هودًا ، عليه السلام ، فكذبوه وخالفوه ، فأنجاه الله من بين أظهرهم ومن آمن معه منهم ، وأهلكهم بريح صرصر عاتية ، { سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ } [ الحاقة : 7 ، 8 ]وقد ذكر الله قصتهم في القرآن في غير ما موضع ، ليعتبر بمصرعهم المؤمنون .
لا يصلح هذا أن يكون جواباً للقسم ولكنه : إمَّا دليلُ الجواب إذ يدل على أن المقسَم عليه من جنس ما فُعِل بهذه الأمم الثلاث وهو الاستئصال الدال عليه قوله : { فصب عليهم ربك سوط عذاب } ، فتقدير الجواب ليصبن ربك على مكذبيك سوط عذاب كما صب على عاد وثمود وفرعون .
وإمّا تمهيد للجواب ومقدمة له إن جعلت الجواب قوله : { إن ربك لبالمرصاد } وما بينه وبين الآيات السابقة اعتراض جعل كمقدمة لجواب القسم .
والمعنى : إن ربك لبالمرصاد للمكذبين لا يخفى عليه أمرهم ، فيكون تثبيتاً للنبيء صلى الله عليه وسلم كقوله : { ولا تحسبن اللَّه غافلاً عما يعمل الظالمون } [ إبراهيم : 42 ] .
فالاستفهام في قوله : { ألم تر } تقريري ، والمخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم تثبيتاً له ووعداً بالنصر ، وتعريضاً للمعاندين بالإِنذار بمثله فإن ما فُعل بهذه الأمم الثلاث موعظة وإنذار للقوم الذين فَعَلوا مثل فعلهم من تكذيب رسل الله قُصد منه تقريب وقوع ذلك وتوقع حلوله . لأن التذكير بالنظائر واستحضَار الأمثال يقرِّب إلى الأذهانِ الأمر الغريب الوقوع ، لأن بُعد العهد بحدوث أمثاله ينسيه الناسَ ، وإذا نُسي استبعَد الناسُ وقوعه ، فالتذكير يزيل الاستبعاد .
فهذه العِبَر جزئيات من مضمون جواب القسم ، فإن كان محذوفاً فذِكْرُها دليلُه ، وإن كان الجواب قوله : { إن ربك لبالمرصاد } كان تقديمها على الجواب زيادة في التشويق إلى تلقيه ، وإيذاناً بجنس الجواب من قَبْل ذكره ليحصل بعد ذكره مزيد تقرُّره في الأذهان .
والرؤيَةُ في { ألم تر } يجوز أن تكون رؤية عِلْمية تشبيهاً للعلم اليقيني بالرؤية في الوضوح والانكشاف لأن أخبار هذه الأمم شائعة مضروبة بها المُثُل فكأنها مشاهدة . فتكون { كيف } استفهاماً معلِّقاً فعل الرؤية عن العمل في مفعولين .
ويجوز أن تكون الرؤية بصرية والمعنى : ألم تر آثار ما فعل ربك بعاد ، وتكون { كيف } إسْماً مجرّداً عن الاستفهام في محل نصب على المفعولية لفعل الرؤية البصرية .
وعُدل عن اسم الجلالة إلى التعريف بإضافة رب إلى ضمير المخاطب في قوله : { فعل ربك } لِما في وصف رب من الإِشعار بالولاية والتأييد ولما تؤذن به إضافته إلى ضمير المخاطب من إعزازه وتشريفه .
وقد ابتُدئت الموعظة بذكر عاد وثمود لشهرتهما بين المخاطبين وذُكِرَ بعدهما قوم فرعون لشهرة رسالة موسى عليه السلام إلى فرعون بين أهل الكتاب ببلاد العرب وهم يحدِّثون العرب عنها .
وأريد ب« عاد » الأمة لا محالة قال تعالى : { وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم } [ هود : 59 ] فوَجْه صرفه أنه اسم ثلاثي ساكن الوسط مثللِ هِند ونُوح وإرَم بكسر الهمزة وفتح الراء اسم إرَم بن سَامٍ بن نُوح وهو جد عاد لأن عاداً هو ابن عُوص بن إرَم ، وهو ممنوع من الصرف للعجمة لأن العرب البائدة يُعتبرون خارجين عن أسماء اللغة العربية المستعملة ، فهو عطف بيان ل« عاد » للإِشارة إلى أن المراد ب« عاد » القبيلة التي جدها الأدنى هو عاد بن عوص بن إرم ، وهم عاد الموصوفة ب { الأولى } في قوله تعالى : { وأنه أهلك عاداً الأولى } [ النجم : 50 ] لئلا يتوهم أن المتحدَّثَ عنهم قبيلة أخرى تسمى عاداً أيضاً . كانت تنزل مكة مع العَمَاليق يقال : إنهم بقية من عاد الأولى فعاد وإرم اسمان لقبيلة عاد الأولى .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله : "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبّكَ بِعادٍ إرَمَ" يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ألم تنظر يا محمد بعين قلبك ، فترى كيف فعل ربك بعاد ؟
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : "إرَمَ" ؛
فقال بعضهم : هي اسم بلدة ، ثم اختلف الذين قالوا ذلك في البلدة التي عُنِيت بذلك ؛ فقال بعضهم : عُنيت به الإسكندرية ...
وقال آخرون : عُني بقوله : إرَمَ : أمة ...
وقال آخرون : معنى ذلك : القديمة ...
وقال آخرون : تلك قبيلة من عاد ...
والصواب من القول في ذلكَ : أن يُقال : إن إرم إما بلدة كانت عاد تسكنها ، فلذلك ردّت على عاد للإتباع لها ، ولم يُجر من أجل ذلك ، وإما اسم قبيلة، فلم يُجر أيضا ، كما لا يُجْرى أسماء القبائل، كتميم وبكر ، وما أشبه ذلك إذا أرادوا به القبيلة . وأما اسم عاد فلم يجر ، إذ كان اسما أعجميا .
فأما ما ذُكر عن مجاهد ، أنه قال : عُنِي بذلك القديمة ، فقول لا معنى له ، لأن ذلك لو كان معناه لكان مخفوضا بالتنوين ، وفي ترك الإجراء الدليل على أنه ليس بنعت ولا صفة .
وأشبه الأقوال فيه بالصواب عندي : أنها اسم قبيلة من عاد ، ولذلك جاءت القراءة بترك إضافة عاد إليها ، وترك إجرائها ، كما يقال : ألم تر ما فعل ربك بتميم نهشل ؟ فيترك إجراء نهشل ، وهي قبيلة ، فترك إجراؤها لذلك ، وهي في موضع خفض بالردّ على تميم ، ولو كانت إرم اسم بلدة أو اسم جدّ لعاد لجاءت القراءة بإضافة عاد إليها ، كما يقال : هذا عمرُو زبيدٍ، وحاتمُ طيئ، وأعشى هَمْدانَ ، ولكنها اسم قبيلة منها ، فيما أرى ، كما قال قتادة ، والله أعلم ، فلذلك أجمعت القرّاء فيها على ترك الإضافة ، وترك الإجراء .
وقوله : "ذاتِ الْعِمادِ" اختلف أهل التأويل في معنى قوله : "ذَاتِ الْعِمادِ" في هذا الموضع؛
فقال بعضهم : معناه : ذات الطول ، وذهبوا في ذلك إلى قول العرب للرجل الطويل : رجل مُعَمّد ، وقالوا : كانوا طوال الأجسام ...
وقال بعضهم : بل قيل لهم "ذَاتِ الْعِمادِ" لأنهم كانوا أهل عَمَد ، ينتجِعون الغيوث ، وينتقلون إلى الكلأ حيث كان ، ثم يرجعون إلى منازلهم ...
وقال آخرون : بل قيل ذلك لهم لبناء بناه بعضهم ، فشيّد عَمَده ، ورفع بناءه ... قال ابن زيد ، في قوله : "إرَمَ ذَاتِ الْعِمادِ" قال : عاد قوم هود ، بنَوها وعملوها حين كانوا في الأحقاف ، قال : "لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها" مثل تلك الأعمال في البلاد . قال : وكذلك في الأحقاف في حضرموت ، ثم كانت عاد قال : وثَمّ أحقاف الرمل كما قال الله بالأحقاف من الرمل ، رمال أمثال الجبال ، تكون مظلة مجوّفة .
وقال آخرون : قيل ذلك لهم لشّدة أبدانهم وقواهم ...
وأشبه الأقوال في ذلك بما دلّ عليه ظاهر التنزيل : قول من قال : عُنِي بذلك أنهم كانوا أهل عمود سيارة ، لأن المعروف في كلام العرب من العماد ، ما عُمد به الخيام من الخشب والسواري التي يحمل عليها البناء ، ولا يعلم بناء كان لهم بالعماد بخبر صحيح ، بل وجّه أهل التأويل قوله : "ذَاتِ الْعِمادِ" إلى أنه عُنِي به طول أجسامهم ، وبعضهم إلى أنه عُني به عماد خِيامهم ، فأما عِماد البنيان ، فلا يعلم كثير أحد من أهل التأويل وجهه إليه ، وتأويل القرآن إنما يوجه إلى الأغلب الأشهر من معانيه ، ما وُجد إلى ذلك سبيل ، دون الأنكر .
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
في ذكر نبأ عاد وثمود فوائد ثلاث :
أحدها : في موضع التخويف لأهل الذين كذبوا رسوله صلى الله عليه وسلم وهو أن أولئك القوم كانوا أكثر أموالا وأولادا وأعدادا وأكثر في القوة من هؤلاء الذين كذبوا محمدا ، عليه أفضل الصلاة والسلام ، فلم يغنهم ذلك كله من الله تعالى شيئا ، بل الله تعالى انتقم منهم لرسله عليهم السلام بما كذبوهم . فما بال هؤلاء الذين كذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم لا يخافون مقته وحلول النقمة بتكذيبهم رسوله ؟ وليسوا بأكثر من أولئك في العدد والمال والقوة .
الثانية : أن أولئك كانوا يزعمون أنهم بالله تعالى أولى من أمة محمد عليه السلام وأتباعه لما بسط لهم من النعيم ، وضيق على رسول وأتباعه ، فتبين أن الذين تقدمهم من مكذبي الرسل كانوا أرفع منهم في القوى والأموال والأولاد والأعداد ، وكانت رسلهم في ضيق من العيش ، ثم كانوا هم أولى بالله تعالى من المكذبين المفتخرين بكثرة الأعداد والقوى ، فبين لهم هذا ليعلموا أن ليس الأمر على ما ظنوا ، وحسبوا .
والثالثة : أنهم كانوا يمتنعون عن الإيمان بالله تعالى وبرسله ، وكانوا يقولون : { إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون } [ الزخرف : 23 ] فيكون في ذكر هذا نفي التقليد لأولئك لأنه كان في آبائهم من أهلك بتكذيبهم الرسل ، وهم الفراعنة وأتباعهم ، وفيهم من نجا ، وهم الرسل وأتباعهم المصدقون لهم ، فما بالهم قلدوا المهلكين منهم دون الذين نجوا ؟
ثم الآية لم تسق ليعرف نسب عاد وثمود وفرعون حتى يشتغل بتعرفه ، وإنما سيقت للأوجه التي ذكرنا ؛ فالاشتغال بتعرف أنسابهم وأحوالهم نوع من التكلف . وقوله تعالى : { ألم تر كيف فعل ربك بعاد } فقوله : { ألم تر } يحتمل وجهين : أحدهما : أي قد رأيت كما يقال في الشاهد : ألم تر إلى ما فعل فلان ، أي قد رأيت ، وعلمت ، فيخبره بصنيعه على جهة التشكي منه .
الثاني : أنه يكون هذا ابتداء إعلام منه ، فيقول له : اعلم أن ربك فعل بعاد كذا . ...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
خطاب من الله تعالى للنبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وتنبيه للكفار على ما فعل بالأمم الماضية لما كفروا بوحدانية الله ، وإعلام لهم كيفية إهلاكهم .
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم وقف تعالى على مصارع الأمم الخالية الكافرة وما فعل ربك من التعذيب والإهلاك والمراد بذلك توعد قريش ونصب المثل لها . و { عاد } قبيلة لا خلاف في ذلك ...
أما قوله تعالى : { ألم تر } ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : ألم تر ، ألم تعلم لأن ذلك مما لا يصح أن يراه الرسول وإنما أطلق لفظ الرؤية ههنا على العلم ، وذلك لأن أخبار عاد وثمود وفرعون كانت منقولة بالتواتر ! أما عاد وثمود فقد كانا في بلاد العرب، وأما فرعون فقد كانوا يسمعونه من أهل الكتاب ، وبلاد فرعون أيضا متصلة بأرض العرب وخبر التواتر يفيد العلم الضروري ، والعلم الضروري جار مجرى الرؤية في القوة والجلاء والبعد عن الشبهة ، فلذلك قال : { ألم تر } بمعنى ألم تعلم .
المسألة الثانية : قوله : { ألم تر } وإن كان في الظاهر خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم لكنه عام لكل من علم ذلك . والمقصود من ذكر الله تعالى حكايتهم أن يكون زجرا للكفار عن الإقامة على مثل ما أدى إلى هلاك عاد وثمود وفرعون وقومه ، وليكون بعثا للمؤمنين على الثبات على الإيمان . ...
أما قوله تعالى : { بعاد إرم ذات العماد } ففيه مسائل : المسألة الأولى : أنه تعالى ذكر ههنا قصة ثلاث فرق من الكفار المتقدمين وهي عاد وثمود وقوم فرعون على سبيل الإجمال حيث قال : { فصب عليهم ربك سوط عذاب } ولم يبين كيفية ذلك العذاب ، وذكر في سورة الحاقة بيان ما أبهم في هذه السورة فقال : { فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر } إلى قوله { وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة }الآية . ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ ألم تر } أي تنظر بعين الفكر يا أشرف رسلنا فتعلم علماً هو في التيقن به كالمحسوس بالبصر ، وعبر بالاستفهام إشارة إلى أن ما ندبه إلى رؤيته مما يستحق أن يسأل عنه : { كيف فعل ربك } أي المحسن إليك بإرسالك ختاماً لجميع الأنبياء بالأمم الماضية بما شاركوا به هؤلاء من تكذيب الرسل وجعل محط نظرهم الدنيا ، وعملوا أعمال من يظن الخلود ، وبدأ بأشدهم في ذلك وأعتاهم الذين قالوا : من أشد منا قوة ؟ فقال : { بعاد } أي الذين بلغوا في الشدة أن قالوا : من أشد منا قوة ؟ وقال لهم نبيهم هود صلى الله عليه وسلم :{ وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون }[ الشعراء : 129 ] ودل على ذلك بناؤهم جنة في هذه الدنيا الفانية التي هي دار الزوال ، والقلعة والارتحال ، والنكد والبلاء والكدر ، والمرض والبؤس والضرر .
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
{ ألم تر } أي ألم ينته علمك إلى ما فعل ربك بعاد ، وهذه الرؤية رؤية القلب ، والخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، أو لكلّ من يصلح له ، وقد كان أمر عاد وثمود مشهوراً عند العرب ، لأن ديارهم متصلة بديار العرب ، وكانوا يسمعون من أهل الكتاب أمر فرعون . ...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
{ عاد } قبيلة من العرب البائدة ، وتلقب بإرم أيضا وهم الذي بعث الله فيهم هودا عليه السلام ، فكذبوه فأهلكهم بريح صرصر عاتية...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وصيغة الاستفهام في مثل هذا السياق أشد إثارة لليقظة والالتفات . والخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ابتداء . ثم هو لكل من تتأتى منه الرؤية أو التبصر في مصارع أولئك الأقوام..... وقد جمع الله في هذه الآيات القصار مصارع أقوى الجبارين الذين عرفهم التاريخ القديم . . مصرع : " عاد إرم " وهي عاد الأولى . وقيل : إنها من العرب العاربة أو البادية . وكان مسكنهم بالأحقاف وهي كثبان الرمال . في جنوبي الجزيرة بين حضرموت واليمن . وكانوا بدوا ذوي خيام تقوم على عماد . ...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فالاستفهام في قوله : { ألم تر } تقريري ، والمخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم تثبيتاً له ووعداً بالنصر ، وتعريضاً للمعاندين بالإِنذار بمثله فإن ما فُعل بهذه الأمم الثلاث موعظة وإنذار للقوم الذين فَعَلوا مثل فعلهم من تكذيب رسل الله قُصد منه تقريب وقوع ذلك وتوقع حلوله . لأن التذكير بالنظائر واستحضَار الأمثال يقرِّب إلى الأذهانِ الأمر الغريب الوقوع ، لأن بُعد العهد بحدوث أمثاله ينسيه الناسَ ، وإذا نُسي استبعَد الناسُ وقوعه ، فالتذكير يزيل الاستبعاد . ... والرؤيَةُ في { ألم تر } يجوز أن تكون رؤية عِلْمية تشبيهاً للعلم اليقيني بالرؤية في الوضوح والانكشاف لأن أخبار هذه الأمم شائعة مضروبة بها المُثُل فكأنها مشاهدة . فتكون { كيف } استفهاماً معلِّقاً فعل الرؤية عن العمل في مفعولين . ... ويجوز أن تكون الرؤية بصرية والمعنى : ألم تر آثار ما فعل ربك بعاد ، وتكون { كيف } اسْماً مجرّداً عن الاستفهام في محل نصب على المفعولية لفعل الرؤية البصرية . وعُدل عن اسم الجلالة إلى التعريف بإضافة رب إلى ضمير المخاطب في قوله : { فعل ربك } لِما في وصف رب من الإِشعار بالولاية والتأييد ولما تؤذن به إضافته إلى ضمير المخاطب من إعزازه وتشريفه . ...
ربما ظن ظان أن الله سبحانه وتعالى يجعل كل الجزاء في الآخرة، وقد يستبطئ ناس الآخرة، وقد لا يؤمن ناس بالآخرة، فلابد من وضع حد للطغيان في الكون، فيكون هناك أشياء لا تؤجل للآخرة، بل يكون الاعتبار بها في الدنيا أيضاً، فقال سبحانه وتعالى لنا: {ألم تر كيف فعل ربّك بعاد(6) إرم ذات العماد(7) التي لم يخلق مثلها في البلاد(8) وثمود الذين جابوا الصّخر بالواد(9)} أتى لنا بأعلام لهم تاريخ معروف ومعلوم ومتداول، كان لهم من الامتداد العمراني، والرقي الحضاري، والتمكين في الأرض، ثم بعد ذلك انهارت كل تلك الحضارات قاطبة وانتهت بأجمعها، وعندما يقول القرآن: {ألم تر} فالخطاب أولاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يشمل كل من يتأتى بعد ذلك.
وكلمة: {ألم تر} معناها: أن ذلك أمر عرف للنبي صلى الله عليه وسلم وعرف للمعاصرين لنزول هذه الآية، وإلا فلو لم يكن تاريخاً معلوماً ومتعارفاً لاعترضوا على هذه الحكاية لعدم علمهم بها.
فلا يقول الحق سبحانه وتعالى: {ألم تر كيف فعل ربّك} إلا لأمر متعارف معلوم، وقع في الكون، والاستدلال بواقع الكون المخالف لمنهج الله، يدل على أننا يجب أن نصدق ما لم يقع تحت حسنا في كون الله؛ لأن الله سبحانه وتعالى أخبر به، فيكون إخبار الله لنا أوثق من حواسنا.
إذن.. فالمخالفة للمنهج السماوي يكون له لون من الجزاء الدنيوي، ولون من الجزاء الأخروي.
فلكي لا يستبطئ الناس الآخرة، يقول لهم: حتى في الدنيا، لله أيضاً قدرٌ يجري على من انحرف وبغى؛ لكي نعتبر، فالذي لا يؤمن بغيب الوعد، ولا بغيب الوعيد، يؤمن بمشهد الواقع.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
تأتي هذه الآيات لتعرض لنا نماذج من طواغيت الأرض من الذين توفرت لهم بعض سبل القوّة والقدرة ، فأهوتهم أهواؤهم في قاع الغرور والكفر والطغيان ، وتبيّن لنا الآيات المباركة ما حلّ بهم من عاقبة أليمة ، محذرة المشركين في كلّ عصر ومصر على أن يرعووا ويعودوا إلى رشدهم بعد أن يعيدوا حسابهم ويستيقظوا من غفلتهم ، لأنّهم مهما تمتعوا بقوّة وقدرة فلن يصلوا لما وصل إليه الأقوام السالفة ، وينبغي الاتعاظ بعاقبتهم ، وإلاّ فالهلاك والعذاب الأبدي ولا غير سواه . ... وكان أهل عاد أقوياء البنية ، طوال القامة ، لذا كانوا يعتبرون من المقاتلين الأشداد ، هذا بالإضافة إلى ما كانوا يتمتعون به من تقدّم مدني ، وكانت مدنهم عامرة وقصورهم عالية وأراضيهم يعمها الخضار . ...