( إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا ) .
وهي اللفتة الأولى إلى مصدر التكليف بهذه الدعوة ، وينبوع حقيقتها . . إنها من الله . هو مصدرها الوحيد . وهو الذي نزل بها القرآن . فليس لها مصدر آخر ، ولا يمكن أن تختلط حقيقتها بشيء آخر لا يفيض من هذا الينبوع . وكل ما عدا هذا المصدر لا يتلقى عنه ، ولا يستمد منه ، ولا يستعار لهذه العقيدة منه شيء ، ولا يخلط بها منه شيء . . ثم إن الله الذي نزل هذا القرآن وكلف بهذه الدعوة لن يتركها . ولن يترك الداعي إليها ، وهو كلفه ، وهو نزل القرآن عليه .
ولكن الباطل يتبجح ، والشر ينتفش ، والأذى يصيب المؤمنين ، والفتنة ترصد لهم ؛ والصد عن سبيل الله يملكه أعداء الدعوة ويقومون به ويصرون عليه ، فوق إصرارهم على عقيدتهم وأوضاعهم وتقاليدهم وفسادهم وشرهم الذي يلجون فيه ! ثم هم يعرضون المصالحة ، وقسمة البلد بلدين ، والالتقاء في منتصف الطريق . . وهو عرض يصعب رده ورفضه في مثل تلك الظروف العصيبة !
قوله : إنّا نَحْنُ نَزّلْنا عَلَيْكَ القُرآنَ تَنْزِيلاً يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : إنا نحن نزّلنا عليك يا محمد هذا القرآن تنزيلاً ، ابتلاء منا واختبارا فاصْبِرْ لِحُكُمِ رَبّكَ يقول : اصبر لما امتحنك به ر بك من فرائضه ، وتبليغ رسالاته ، والقيام بما ألزمك القيام به في تنزيله الذي أوحاه إليك وَلتُطِعْ مِنْهُمْ آثِما أو كَفُورا يقول : ولا تطع في معصية الله من مشركي قومك آثما يريد بركوبه معاصيه ، أو كفورا : يعني جحودا لنعمه عنده ، وآلائه قِبلَه ، فهو يكفر به ، ويعبد غيره .
وقيل : إن الذي عني بهذا القول أبو جهل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِما أوْ كَفُورا قال : نزلت في عدوّ الله أبي جهل .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة أنه بلغه أن أبا جهل قال : لئن رأيت محمدا يصلي لأطأنّ عنقه ، فأنزل الله : وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِما أوْ كَفُورا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِما أوْ كَفُورا قال : الاَثِم : المذنب الظالم والكفور ، هذا كله واحد .
وقيل : أوْ كَفُورا والمعنى : ولا كفورا . قال الفرّاء : «أو » ههنا بمنزلة الواو ، وفي الجحد والاستفهام والجزاء تكون بمعنى «لا » ، فهذا من ذلك مع الجحد ومنه قول الشاعر :
لا وَجْدُ ثَكْلَى كما وَجَدْتُ وَلا *** وَجْدُ عَجُولٍ أضَلّها رُبَعُ
أوْ وَجْدُ شَيْخٍ أضَلّ ناقَتَهُ *** يَوْمَ تَوَافَى الْحَجِيجُ فانْدَفَعُوا
أراد : ولا وجدُ شيخ ، قال : وقد يكون في العربية : لا تطيعنّ منهم من أثم أو كفر ، فيكون المعنى في أو قريبا من معنى الواو ، كقولك للرجل : لأعطينك سألت أو سكتّ ، معناه : لأعطينك على كلّ حال .
من هنا يبتدىء ما لا خلاف في أنه مكي من هذه السورة .
وعلى كلا القولين فهذا استئناف ابتدائي ، ويجيء على قول الجمهور أن السورة كلها مكية وهو الأرجح ، أنه استئناف للانتقال من الاستدلال على ثبوت البعث بالحجّة والترهيب والوعيد للكافرين به والترغيب والوعد للمؤمنين به بمرهبّات ومرغّبات هي من الأحوال التي تكون بعد البعث ، فلمّا استوفى ذلك ثُنِي عِنانُ الكلام إلى تثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم والربطِ على قلبه لِدفاع أن تلحقه آثارُ الغمّ على تصلب قومه في كفرهم وتكذيبهم بما أُنزل عليه مما شأنه أن يوهن العزيمة البشرية ، فذكَّره الله بأنه نزل عليه الكتاب لئلا يعبأ بتكذيبهم .
وفي إيراد هذا بعد طُول الكلام في أحوال الآخرة ، قضاء لحق الاعتناء بأحوال الناس في الدنيا فابتدىء بحال أشرف الناس وهو الرسول صلى الله عليه وسلم ثم بحال الذين دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم بين من { يحبون العاجلة } [ الإنسان : 27 ] ومن { اتخذ إلى ربه سبيلاً } [ الإنسان : 29 ] فأدخلهم في رحمته .
وتأكيد الخبر ب ( إنَّ ) للاهتمام به .
وتأكيد الضمير المتصل بضمير منفصل في قوله : { إنا نحن } لتقرير مدلول الضمير تأكيداً لفظياً للتنبيه على عظمة ذلك الضمير ليفضي به إلى زيادة الاهتمام بالخبر إذ يتقرر أنه فِعْلُ من ذلك الضميرَاننِ له لأنه لا يفعل إلا فعلاً منوطاً بحكمة وأقصى الصواب .
وهذا من الكناية الرمزية ، وبعدُ فالخبر بمجموعه مستعمل في لازم معناه وهو التثبيت والتأييد فمجموعُه كناية ومزية .
وإيثار فعل { نزّلنا } الدال على تنزيله منجماً آياتتٍ وسُوراً تنزيلاً مفرقاً إدماجٌ للإِيماء إلى أن ذلك كان من حكمة الله تعالى التي أومأ إليها تأكيد الخبر ب ( إن ) وتأكيدُ الضمير المتصل بالضمير المنفصل ، فاجتمع فيه تأكيد على تأكيد وذلك يفيد مُفاد القصر إذ ليس الحصر والتخصيصُ إلاّ تأكيداً على تأكيد كما قال السكاكي ، فالمعنى : ما نزَّل عليك القرآن إلاّ أنا .
وفيه تعريض بالمشركين الذين قالوا : { لولا نزل عليه القرآن جملةً واحدة } [ الفرقان : 32 ] فجعلوا تنزيله مفرقاً شبهة في أنه ليس من عند الله .
والمعنى : ما أنزله منجّماً إلاّ أنا واقتضت حكمتي أن أنزله عليك منجّماً .
وفرع على هذا التمهيد أمره بالصبر على أعباء الرسالة وما يلقاه فيها من أذى المشركين ، وشدُّ عزيمته أن لا تخور .
وسمى ذلك حكماً لأن الرسالة عن الله لا خيرة للمرسَل في قبولها والاضطلاععِ بأمورها ، ولأن ما يحفّ بها من مصاعب إصلاح الأمة وحملِها على ما فيه خيرها في العاجل والآجل ، وتلقي أصناف الأذى في خلال ذلك حتى يتمّ ما أمر الله به ، كالحكم على الرسول بقبولِ ما يبلغ منتهى الطاقة إلى أجللٍ معين عند الله .