قوله تعالى : { إنا نحن نزلنا القرآن تنزيلا } .
اعلم أنه سبحانه بين في أول السورة أن الإنسان وجد بعد العدم بقوله : { هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا } ثم بين أنه سبحانه خلقه من أمشاج ، والمراد منه إما كونه مخلوقا من العناصر الأربعة أو من الأخلاط الأربعة أو من ماء الرجل والمرأة أو من الأعضاء والأرواح أو من البدن والنفس أو من أحوال متعاقبة على ذلك الجسم مثل كونه نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاما ، وعلى أي هذه الوجوه تحمل هذه الآية ، فلذلك يدل على أنه لا بد من الصانع المختار جل جلاله وعظم كبرياؤه . ثم بين بعد ذلك أني ما خلقته ضائعا عاطلا باطلا ، بل خلقته لأجل الابتلاء والامتحان ، وإليه الإشارة بقوله : { نبتليه } وهاهنا موضع الخصومة العظيمة القائمة بين أهل الجبر والقدر ، ثم ذكر تعالى أني أعطيته جميع ما يحتاج إليه عند الابتلاء والامتحان ، وهو السمع والبصر والعقل ، وإليه الإشارة بقوله : { فجعلناه سميعا بصيرا } ولما كان العقل أشرف الأمور المحتاج إليها في هذا الباب أفرده عن السمع والبصر ، فقال : { إنا هديناه السبيل } ثم بين أن الخلق بعد هذه الأحوال صاروا قسمين : منهم شاكر ، ومنهم كفور ، وهذا الانقسام باختيارهم كما هو تأويل القدرية ، أو من الله على ما هو تأويل الجبرية ، ثم إنه تعالى ذكر عذاب الكفار على الاختصار ، ثم ذكر بعد ذلك ثواب المطيعين على الاستقصاء ، وهو إلى قوله : { وكان سعيكم مشكورا } واعلم أن الاختصار في ذكر العقاب مع الإطناب في شرح الثواب يدل على أن جانب الرحمة أغلب وأقوى ، فظهر مما بينا أن السورة من أولها إلى هذا الموضع في بيان أحوال الآخرة ، ثم إنه تعالى شرع بعد ذلك في أحوال الدنيا ، وقدم شرح أحوال المطيعين على شرح أحوال المتمردين . أما المطيعون فهم الرسول وأمته ، والرسول هو الرأس والرئيس ، فلهذا خص الرسول بالخطاب . واعلم أن الخطاب إما النهي وإما الأمر ، ثم إنه تعالى قبل الخوض فيما يتعلق بالرسول من النهي والأمر ، قدم مقدمة في تقوية قلب الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإزالة الغم والوحشة عن خاطره ، وإنما فعل ذلك ، لأن الاشتغال بالطاعة والقيام بعهدة التكليف لا يتم إلا مع فراغ القلب ثم بعد هذه المقدمة ذكر نهيه عن بعض الأشياء ، ثم بعد الفراغ عن النهي ، ذكر أمره ببعض الأشياء ، وإنما قدم النهي على الأمر ، لأن دفع الضرر أهم من جلب النفع ، وإزالة مالا ينبغي مقدم على تحصيل ما ينبغي ، ثم إنه تعالى ذكر بعد ذلك أحوال المتمردين والكفار على ما سيأتي تفصيل بيانه ، ومن تأمل فيما ذكرناه علم أن هذه السورة ، وقعت على أحسن وجوه الترتيب والنظام ، فالحمد لله الذي نور عقل هذا المسكين الضعيف بهذه الأنوار ، وله الشكر عليه أبد الآباد .
ولنرجع إلى التفسير ، فنقول : أما تلك المقدمة فهي ، قوله تعالى : { إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا } واعلم أن المقصود من هذه الآية تثبيت الرسول وشرح صدره فيما نسبوه إليه من كهانة وسحر ، فذكر الله تعالى أن ذلك وحي من الله ، فلا جرم بالغ وكرر الضمير بعد إيقاعه اسما ، لأن تأكيدا على تأكيد أبلغ ، كأنه تعالى يقول : إن كان هؤلاء الكفار يقولون : إن ذلك كهانة ، فأنا الله الملك الحق أقول على سبيل التأكيد والمبالغة إن ذلك وحي حق وتنزيل صدق من عندي ، وهذا فيه فائدتان :
إحداهما : إزالة الوحشة المتقدمة الحاصلة بسبب طعن أولئك الكفار ، فإن بعض الجهال وإن طعنوا فيه إلا أن جبار السماوات عظمه وصدقه .
والثانية : تقويته على تحمل التكليف المستقبل ، وذلك لأن الكفار كانوا يبالغون في إيذائه ، وهو كان يريد مقاتلتهم فلما أمره الله تعالى بالصبر على ذلك الإيذاء وترك المقاتلة ، وكان ذلك شاقا عليه ، فقال له : { إنا نزلنا عليك القرآن تنزيلا } فكأنه قال له : إني ما نزلت عليك هذا القرآن مفرقا منجما إلا لحكمة بالغة تقتضي تخصيص كل شيء بوقت معين ، ولقد اقتضت تلك الحكمة تأخير الإذن في القتال ، فاصبر لحكم ربك الصادر عن الحكمة المحضة المبرأ عن العيب والعبث والباطل .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.