قوله : فَتَوَلّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ يقول : فتولوا عن إبراهيم مدبرين عنه ، خوفا من أن يعدِيَهُم السقم الذي ذكر أنه به ، كما :
حُدثت عن يحيى بن زكريا ، عن بعض أصحابه ، عن حكيم بن جُبَير ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس إنّي سَقِيمٌ يقول : مطعون فتولّوا عنه مدبرين ، قال سعيد : إن كان الفرار من الطاعون لقديما .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة فَتَوَلّوْا فنكصوا عنه مُدْبِرِينَ منطلقين .
واختلف أيضاً في قوله { إني سقيم } ، فقالت فرقة هي كذبة في ذات الله تعالى أخبرهم عن نفسه أنه مريض وأن الكوكب أعطاه ذلك ، وقال ابن عباس وغيره : أشار لهم إلى مرض وسقم يعدي كالطاعون ولذلك تولوا { مدبرين } أي فارين منه ، وقال بعضهم بل تولوا { مدبرين } لكفرهم واحتقارهم لأمره .
قال القاضي أبو محمد : وعلى هذا التأويل في أنها كذبة يجيء الحديث لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات : قوله { إني سقيم } ، وقوله { بل فعله كبيرهم }{[9873]} [ الأنبياء : 63 ] وقوله في سارة هي أختي{[9874]} .
وقالت فرقة : ليست بكذبة ولا يجوز الكذب عليه ولكنها من المعاريض أخبرهم بأنه سقيم في المثال وعلى عرف ابن آدم لا بد أن يسقم ضرورة ، وقيل أراد على هذا { إني سقيم } النفس أي من أموركم وكفركم فظهر لهم من كلامه أنه أراد سقماً بالجسد حاضراً وهكذا هي المعاريض .
قال القاضي أبو محمد : وهذا التأويل لا يرده الحديث وذكر الكذبات لأنه قد يقال لها كذب على الاتساع بحسب اعتقاد المخبر ، والكذب الذي هو قصد قول الباطل ، والإخبار بضد ما في النفس بغير منفعة شرعية ، هو الذي لا يجوز على الأنبياء صلوات الله عليهم .
والتولي : الإِعراض والمفارقة .
لم ينطق إبراهيم فإن النجوم دلته على أنه سقيم ولكنه لما جعل قوله : { إني سقيمٌ } مقارناً لنظره في النجوم أوهم قومه أنه عرف ذلك من دلالة النجوم حسب أوهامهم .
و { مُدبرينَ } حال ، أي ولَّوه أدبارهم ، أي : ظهورهم . والمعنى : ذهبوا وخلفوه وراء ظهورهم بحيث لا ينظرونه . وقد قيل : إن { مُدْبرينَ } حال مؤكدة وهو من التوكيد الملازم لفعل التولي غالباً لدفع توهّم أنه تولّي مخالفة وكراهة دون انتقال .
وما وقع في التفاسير في معنى نظره في النجوم وفي تعيين سقمه المزعوم كلام لا يمتع بين موازين المفهوم ، وليس في الآية ما يدل على أن للنجوم دلالة على حدوث شيء من حوادث الأمم ولا الأشخاص ومن يزعم ذلك فقد ضلّ ديناً ، واختل نظراً وتخميناً . وقد دوّنوا كذباً كثِيراً في ذلك وسموه علم أحكام الفلك أو النجوم .
وقد ظهر من نظم الآية أن قوله : { إني سقيمٌ } لم يكن مرضاً ولذلك جاء الحديث الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " لم يكذب إبراهيم إلا ثلاثَ كَذَبات اثنتين منهن في ذات الله عزّ وجلّ " قوله : { إني سقيم } ، وقوله : { بل فعله كبيرهم هذا } [ الأنبياء : 63 ] ، وبينَا هو ذات يوم وسارة إذ أتى على جبّار من الجبابرة فسأله عن سارة فقال : « هي أختي » الحديث ، فورد عليه إشكال من نسبة الكذب إلى نبيء .
ودفع الإِشكال : أن تسمية هذا الكلام كذباً منظور فيه إلى ما يُفهمه أو يعطيه ظاهر الكلام وما هو بالكذب الصراح بل هو من المعاريض ، أي أني مثل السقيم في التخلف عن الخروج ، أو في التألم من كفرهم وأن قوله : « هي أختي » أراد أخوّةَ الإِيمان ، وأنه أراد التهكم في قوله : { بل فعله كبيرهم هذا } [ الأنبياء : 63 ] لظهور قرينة أن مراده التغليط .
وهذه الأجوبة لا تدفع إشكالاً يتوجه على تسمية النبي صلى الله عليه وسلم هذا الكلام بأنه كذبات . وجوابه عندي : أنه لم يكن في لغة قوم إبراهيم التشبيه البليغ ، ولا المجازُ ، ولا التهكّم ، فكان ذلك عند قومه كذباً وأن الله أذِن له فعل ذلك وأعلمه بتأويله كما أذن لأيوب أن يأخذ ضغثاً من عِصيّ فيضرب به ضربةً واحدة ليُبرّ قسَمَه إذ لم تكن الكفارة مشروعة في دين أيوب عليه السلام .