وأمام هذا الموقف المهين الميئوس منه في الآخرة ، يردهم إلى موقفهم في الفرصة المتاحة لهم في الأرض قبل مواجهة ذلك الموقف ؛ وهم يصدون عنها ويعرضون ، بل يفرون من الهدى والخير ووسائل النجاة المعروضة عليهم فيها ، ويرسم لهم صورة مضحكة تثير السخرية والعجب من أمرهم الغريب :
( فما لهم عن التذكرة معرضين ? كأنهم حمر مستنفرة ، فرت من قسورة ? ) . .
ومشهد حمر الوحش وهي مستنفره تفر في كل اتجاه ، حين تسمع زئير الأسد وتخشاه . . مشهد يعرفه العرب . وهو مشهد عنيف الحركة . مضحك أشد الضحك حين يشبه به الآدميون ! حين يخافون ! فكيف إذا كانوا إنما ينفرون هذا النفار الذي يتحولون به من آدميين إلى حمر ، لا لأنهم خائفون مهددون بل لأن مذكرا يذكرهم بربهم وبمصيرهم ، ويمهد لهم الفرصة ليتقوا ذلك الموقف الزري المهين ، وذلك المصير العصيب الأليم ? !
إنها الريشة المبدعة ترسم هذا المشهد وتسجله في صلب الكون ، تتملاه النفوس ، فتخجل وتستنكف أن تكون فيه ، ويروح النافرون المعرضون أنفسهم يتوارون من الخجل ، ويطامنون من الإعراض والنفار ، مخافة هذا التصوير الحي العنيف !
القول في تأويل قوله تعالى : { كَأَنّهُمْ حُمُرٌ مّسْتَنفِرَةٌ * فَرّتْ مِن قَسْوَرَةٍ * بَلْ يُرِيدُ كُلّ امْرِىءٍ مّنْهُمْ أَن يُؤْتَىَ صُحُفاً مّنَشّرَةً * كَلاّ بَل لاّ يَخَافُونَ الاَخِرَةَ } .
يقول تعالى ذكره : فما لهؤلاء المشركين بالله عن التذكرِة معرِضين ، مولّين عنها تولية الحُمُر المستنفرة فَرّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ .
واختلف القرّاء في قراءة قوله : مُسْتَنْفِرَةٌ ، فقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة والبصرة بكسر الفاء ، وفي قراءة بعض المكيين أيضا بمعنى نافرة .
والصواب من القول في ذلك عندنا ، أنهما قراءتان معروفتان ، صحيحتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب . وكان الفرّاء يقول : الفتح والكسر في ذلك كثيران في كلام العرب وأنشد :
أمْسِكْ حِمارَكَ إنّهُ مُسْتَنْفِرٌ *** فِي إثْرِ أحْمِرَةٍ عَمَدْنَ لِغُرّب
وقوله تعالى في صفة الكفار المعرضين بتول واجتهاد في نفور { كأنهم حمر مستنفرة } إثبات لجهالتهم لأن الحمر من جاهل الحيوان جداً ، وقرأ الأعمش : «حمْر » بإسكان الميم ، وفي حرف ابن مسعود «حمر نافرة » ، وقرأ نافع وابن عامر والمفضل عن عاصم : «مستنفَرة » بفتح الفاء ، وقرأ الباقون بكسرها ، واختلف عن نافع وعن الحسن والأعرج ومجاهد ، فأما فتح الفاء فمعناها استنفرها فزعها من القسورة ، وأما كسر الفاء فعلى أن نفر واستنفر بمعنى واحد مثل عجب واستعجب وسخر واستسخر فكأنها نفرت هي ، ويقوي ذلك قوله تعالى { فرت }
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
شبههم بالحمر الوحشية المذعورة فقال: {كأنهم حمر مستنفرة} بتركهم القرآن إذا سمعوا منه مثل الحمر.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فما لهؤلاء المشركين بالله عن التذكرِة معرِضين، مولّين عنها تولية الحُمُر المستنفرة" فَرّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ".
واختلف القرّاء في قراءة قوله: "مُسْتَنْفِرَةٌ"، فقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة والبصرة بكسر الفاء، وفي قراءة بعض المكيين أيضا بمعنى نافرة.
والصواب من القول في ذلك عندنا، أنهما قراءتان معروفتان، صحيحتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
كأنهم حمر مستنفرة} {فرت من قسورة} بنصب الفاء وخفضه. ومن قرأ بخفض الفاء صرف الفعل إليها، كأنه يقول: حمر نافرة، ونفر واستنفر واحد كما يقال: استرقد القوم أي رقدوا. ومن قرأ بنصب الفاء فتأويله أنه فُعِل بها ما يحملها على النفار، وذلك يكون بالرامي وبالقانص، من الأسد كما ذكره أهل التفسير في تأويل القسورة، هي الأسد والرماة أو الصيادون.
ويقال: هي النفرة، وكان هذا تشبيها بالحمر الوحشية التي في طبعها النفار، ووجه التقريب، هو أن هؤلاء أعرضوا عما في الإقبال عليه نجاتهم وتخلصهم من العطب، ونفروا كنفار الحمر المستنفرة من العطب والهلاك.
وفي هذه الآية تبيين شدة سفههم وغاية جهلهم، لأن الحمر تنفر من القانص والرامي والأسد لتسلم من الهلاك والعطب، وهؤلاء الكفرة نفروا عما فيه نجاتهم إلى ما فيه هلاكهم وعطبهم، فهم أشر من الحمير وأضل.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
قرأ نافع وابن عامر بفتح الفاء، يعني مذعورة، وقرأ الباقون بكسرها، يعني هاربة.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
«والمستنفرة» الشديدة النفار كأنها تطلب النفار من نفوسها في جمعها له وحملها عليه. وقرئ بالفتح: وهي المنفرة المحمولة على النفار.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} أي: كأنهم في نفارهم عن الحق، وإعراضهم عنه حُمُر من حمر الوحش إذا فرت ممن يريد صيدها من أسد،
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 49]
وأمام هذا الموقف المهين الميؤوس منه في الآخرة، يردهم إلى موقفهم في الفرصة المتاحة لهم في الأرض قبل مواجهة ذلك الموقف؛ وهم يصدون عنها ويعرضون، بل يفرون من الهدى والخير ووسائل النجاة المعروضة عليهم فيها، ويرسم لهم صورة مضحكة تثير السخرية والعجب من أمرهم الغريب:
(فما لهم عن التذكرة معرضين؟ كأنهم حمر مستنفرة، فرت من قسورة؟)..
ومشهد حمر الوحش وهي مستنفره تفر في كل اتجاه، حين تسمع زئير الأسد وتخشاه.. مشهد يعرفه العرب. وهو مشهد عنيف الحركة. مضحك أشد الضحك حين يشبه به الآدميون! حين يخافون! فكيف إذا كانوا إنما ينفرون هذا النفار الذي يتحولون به من آدميين إلى حمر، لا لأنهم خائفون مهددون بل لأن مذكرا يذكرهم بربهم وبمصيرهم، ويمهد لهم الفرصة ليتقوا ذلك الموقف الزري المهين، وذلك المصير العصيب الأليم؟!
إنها الريشة المبدعة ترسم هذا المشهد وتسجله في صلب الكون، تتملاه النفوس، فتخجل وتستنكف أن تكون فيه، ويروح النافرون المعرضون أنفسهم يتوارون من الخجل، ويطامنون من الإعراض والنفار، مخافة هذا التصوير الحي العنيف!