وقوله : { فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً }يقول تعالى ذكره : فلا يستطيع هؤلاء المشركون عند النفخ في الصّور أن يوصوا في أموالهم أحدا وَلا إلى أهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ يقول : ولا يستطيع من كان منهم خارجا عن أهله أن يرجع إليهم ، لأنهم لا يُمْهَلون بذلك . ولكن يُعَجّلون بالهلاك . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً : أي فيما في أيديهم{ وَلا إلى أهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ } قال : أُعْجِلوا عن ذلك .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ما يَنْظُرُ هَؤُلاء إلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً . . . الاَية ، قال هذا مبتدأ يوم القيامة ، وقرأ : فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً حتى بلغ إلى رَبّهِمْ يَنْسِلُونَ .
وقوله تعالى : { فلا يستطيعون توصية } عبارة عن إعجال الحال ، والتوصية مصدر من وصى ، وقوله تعالى : { ولا إلى أهلهم يرجعون } يحتمل ثلاث تأويلات : أحدها ولا يرجع أحد إلى منزله وأهله لإعجال الأمر بل تفيض نفسه حيثما أخذته الصيحة ، والثاني معناه { ولا إلى أهلهم يرجعون } قولاً وهذا أبلغ في الاستعجال وخص الأهل بالذكر لأن القول معهم في ذلك الوقت أهم على الإنسان من الأجنبيين وأوكد في نفوس البشر ، والثالث تقديره { ولا إلى أهلهم يرجعون } أبداً ، فخرج هذا عن معنى وصف الاستعجال إلى معنى ذكر انقطاعهم وانبتارهم من دنياهم ، وقرأ الجمهور «يَرجِعون » بفتح الياء وكسر الجيم ، وقرأ ابن محيصن بضم الياء وفتح الجيم .
قوله : { وَلاَ إلى أهْلِهِم يَرْجِعُونَ } يجوز أن يكون عطفاً على { تَوْصِيَةً } ، أي لا يستطيعون الرجوع إلى أهلهم كشأن الذي يفاجئه ذعْر فيبادر بافتقاد حال أهله من ذلك .
ويجوز أن يكون عطفاً على جملة « لا يستطيعون » فيكون مما شمله التفريع بالفاء ، أي فلا يرجعون إلى أهلهم ، أي هم هالكون على الاحتمالين ، إلا أنه على احتمال أن يراد صيحة الحرب يخصص ضمير { يَرْجِعُونَ } بكبراء قريش الذين هلكوا يوم بدر لأنهم هم المتولُّون كِبْر التكذيب والعناد ، أو الذين أكملوا بالهلاك يوم الفتح مثل عبد الله بن خطل الذي قتل يوم الفتح .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فلا يستطيعون توصية}: أعجلوا عن التوصية فماتوا.
{ولا إلى أهلهم يرجعون}: ولا إلى منازلهم يرجعون من الأسواق، فأخبر الله عز وجل بما يلقون في الأولى...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله: {فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} يقول تعالى ذكره: فلا يستطيع هؤلاء المشركون عند النفخ في الصّور أن يوصوا في أموالهم أحدا.
"وَلا إلى أهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ" يقول: ولا يستطيع من كان منهم خارجا عن أهله أن يرجع إليهم، لأنهم لا يُمْهَلون بذلك، ولكن يُعَجّلون بالهلاك.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{ولا إلى أهلهم يرجعون} يحتمل ثلاث تأويلات:... الثاني معناه {ولا إلى أهلهم يرجعون} قولاً، وهذا أبلغ في الاستعجال؛ وخص الأهل بالذكر لأن القول معهم في ذلك الوقت أهم على الإنسان من الأجنبيين وأوكد في نفوس البشر.
والثالث تقديره {ولا إلى أهلهم يرجعون} أبداً، فخرج هذا عن معنى وصف الاستعجال إلى معنى ذكر انقطاعهم وانبتارهم من دنياهم.
بين شدة الأخذ وهي بحيث لا تمهلهم إلى أن يوصوا، وفيه أمور مبينة للشدة:
أحدها: عدم الاستطاعة فإن قول القائل: فلأن في هذا الحال لا يوصي دون قوله لا يستطيع التوصية؛ لأن من لا يوصي قد يستطيعها.
الثاني: التوصية وهي بالقول والقول يوجد أسرع مما يوجد الفعل فقال: لا يستطيعون كلمة فكيف فعلا يحتاج إلى زمان طويل من أداء بالواجبات ورد المظالم.
الثالث: اختيار التوصية من بين سائر الكلمات، يدل على أنه لا قدرة له على أهم الكلمات؛ فإن وقت الموت الحاجة إلى التوصية أمس.
الرابع: التنكير في التوصية للتعميم أي لا يقدر على توصية ما ولو كانت بكلمة يسيرة؛ ولأن التوصية قد تحصل بالإشارة فالعاجز عنها عاجز عن غيرها.
الخامس: قوله: {ولا إلى أهلهم يرجعون} بيان لشدة الحاجة إلى التوصية؛ لأن من يرجو الوصول إلى أهله قد يمسك عن الوصية لعدم الحاجة إليها، وأما من يقطع بأنه لا وصول له إلى أهله فلا بد له من التوصية، فإذا لم يستطع مع الحاجة دل على غاية الشدة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كانت هذه النفخة المميتة، سبب عنها قوله: {فلا يستطيعون توصية} أي أن يوجدوا الوصية في شيء من الأشياء، والاستفعال والتفعيل يدلان على أن الموت ليس حين سماع أول الصوت بل عقبه من غير مهلة لتمام أمر ما.
ولما كان ذلك ليس نصّاً في نفي المشي قال: {ولا إلى أهلهم} أي فضلاً عن غيرهم {يرجعون} بل يموت كل واحد في مكانه حيث تفجأه الصيحة.
وربما أفهم التعبير ب "إلى "أنهم يريدون الرجوع فيخطون خطوة أو نحوها، وفي الحديث "ليقومن من الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يبيعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد رفع الرجل أكلته إلى فيه فلا يطعمها".
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ما نلاحظه من تنكير التوصية في التعبير القرآني هنا إنّما هو إشارة إلى أنّ الفرصة لا تسنح حتّى لوصية صغيرة أيضاً.