{ أُولَئِكَ الَّذِينَ } بهذه الحالة الذميمة { حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ } أي : حقت عليهم كلمة العذاب { فِي } جملة { أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ } على الكفر والتكذيب فسيدخل هؤلاء في غمارهم وسيغرقون في تيارهم .
{ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ } والخسران فوات رأس مال الإنسان ، وإذا فقد رأس ماله فالأرباح من باب أولى وأحرى ، فهم قد فاتهم الإيمان ولم يحصلوا على شيء من النعيم ولا سلموا من عذاب الجحيم .
وقوله : { أولئك } اسم الإِشارة هذا يعود إلى العاقين المكذبين بالبعث والجزاء المذكورين فى قوله - تعالى - قبل ذلك : { والذي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ } .
أى : أولئك القائلون ذلك ، هم { الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول } أى : وجب عليهم العذاب الذى حكم به - سبحانه - على أمثالهم فى قوله - تعالى - لإِبليس { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } كما يفيده قوله - سبحانه - بعد ذلك . { في أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الجن والإنس } . أى : أولئك الذين وجب عليهم العذاب ، حالة كونهم مندرجين فى أمم قد مضت من قبلهم من طائفة الجن ومن طائفة الإِنس { إِنَّهُمْ } جميعا { كَانُواْ خَاسِرِينَ } لأنهم استحبوا الكفر على الإِيمان .
وقوله : { أولئك } ظاهره أنها إشارة إلى جنس يتضمنه قوله : { والذي قال } ، ويحتمل إن كانت الآية في مشار إليه أن يكون قوله : { أولئك } بمعنى صنف هذا المذكور وجنسهم { الذين حق عليهم القول } ، أي قول الله إنه يعذبهم .
وقوله : { قد خلت من قبلهم من الجن والإنس } يقتضي أن { الجن } يموتون كما يموت البشر قرناً بعد قرن ، وقد جاء حديث يقتضي ذلك . وقال الحسن بن أبي الحسن في بعض مجالسه : إن الجن لا يموتون ، فاعترضه قتادة بهذه الآية فسكت .
يجوز أن يكون اسم الإشارة مشيراً إلى الذي قال لديه هذه المقالة لما علمت أن المراد به فريق ، فجاءت الإشارة إليه باسم إشارة الجماعة بتأويل الفريق . ويجوز أن يكون { أولئك } إشارة إلى { الأوَّلين } من قوله : { فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين } [ الأحقاف : 17 ] ، وهم الذين روي أن ابنَ أبي بكر ذكرَهم حين قال : فأين عبد الله بن جُدعان ، وأيْنَ عثمان بن عمرو ، ومشائخ قريش كما تقدم آنفاً . واستحضار هذا الفريق بطريق اسم الإشارة لزيادة تمييز حالهم العجيبة .
وتعريف { القول } تعريف العهد وهو قول معهود عند المسلمين لما تكرر في القرآن من التعبير عنه بالقول في نحو آية { قال فالحق والحق أقول لأملان جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين } [ ص : 84 ، 85 ] ، ونحو قوله : { أفمن حقّ عليه كلمة العذاب } [ الزمر : 19 ] ، فإن الكلمة قول ، ونحو قوله : { لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون } [ يس : 7 ] الآية . وإطلاقه في هذه الآية رشيق لصلوحية .
وإقحام { كانوا خاسرين } دون أن يقال : إنهم خاسرون ، للإشارة إلى أن خسرانهم محقق فكني عن ذلك بجعلهم كائنين فيه .
وتأكيد الكلام بحرف ( إنَّ ) لأنهم يظنون أن ما حصل لهم في الدنيا من التمتع بالطيبات فوزاً ليس بعده نكد لأنهم لا يؤمنون بالبعث والجزاء ، فشبهت حالة ظنهم هذا بحال التاجر الذي قل ربحه من تجارته فكان أمره خسراً ، وقد تقدم غير مرة منها قوله تعالى : { فما ربحت تجارتهم } في البقرة ( 16 ) .
وإيراد فعل الكون بقوله : { كانوا خاسرين } دون الاقتصار على { خاسرين } لأن ( كان ) تدل على أن الخسارة متمكنة منهم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين هذه الصفة صفتهم، الذين وجب عليهم عذاب الله، وحلّت بهم عقوبته وسخطه، فيمن حلّ به عذاب الله على مثل الذي حلّ بهؤلاء من الأمم الذين مضوا قبلهم من الجنّ والإنس، الذين كذّبوا رسل الله، وعتوا عن أمر ربهم.
وقوله:"إنّهُمْ كانُوا خاسِرينَ" يقول تعالى ذكره: إنهم كانوا المغبونين ببيعهم الهدى بالضلال والنعيم بالعقاب.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{أولئك} أي البعداء من- العقل والمروءة وكل خير {الذين حق} أي ثبت ووجب. ولما كان هذا وعيداً، دل عليه بأداة الاستعلاء فقال: {عليهم القول} أي الكامل في بابه بأنهم أسفل السافلين، وهذا يكذب من قال: إنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي- بكر رضي الله عنهما، فإنه أسلم وصار من أكابر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، فحقت له الجنة. ولما أثبت لهم هذه الشنيعة، عرف بكثرة من شاركهم فيها فقال: {في} أي كائنين في {أمم} أي خلائق كانوا بحيث يقصدهم الناس ويتبع بعضهم بعضاً {قد خلت} تلك الأمم. ولما كان المحكوم عليه بعض السالفين، أدخل الجار فقال: {من قبلهم} فكانوا قدوتهم {من الجن} بدأ بهم لأن العرب تستعظمهم وتستجير بهم، وذلك لأنهم يتظاهرون لهم يؤذونهم ولم يقطع أذاهم لهم وتسلطهم عليهم ظاهراً وباطناً إلا القرآن، فإنه أحرقهم بأنواره وجلاهم عن تلك البلاد بجلي آثاره {والإنس} وما نفعتهم كثرتهم ولا أغنت عنهم قوتهم، ثم علل حقوق الأمر عليهم أو استأنف بقوله مؤكداً تكذيباً لظن هذا القسم الذي الكلام فيه أن الصواب مع الأكثر: {إنهم} أي كلهم {كانوا} أي جبلة وطبعاً وخلقاً لا يقدرون على الانفكاك عنه {خاسرين} أي عريقين في هذا الوصف.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} والخسران فوات رأس مال الإنسان، وإذا فقد رأس ماله فالأرباح من باب أولى وأحرى، فهم قد فاتهم الإيمان ولم يحصلوا على شيء من النعيم ولا سلموا من عذاب الجحيم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والقول الذي حق على هذا وأمثاله هو العقاب الذي ينال الجاحدين المكذبين. وهم كثير. خلت بهم القرون. من الجن والإنس. حسب وعيد الله الصادق الذي لا يخلف ولا يتخلف. (إنهم كانوا خاسرين).. وأية خسارة أكبر من خسارة الإيمان واليقين في الدنيا. ثم خسارة الرضوان والنعيم في الآخرة. ثم العذاب الذي يحق على الجاحدين المنحرفين؟
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(أولئك الذين حقّ عليهم القول في أُمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنّهم كانوا خاسرين)، وأي خسارة أعظم من أنّهم خسروا كلّ رأس مال وجودهم إذا اشتروا به غضب الله عزَّ وجلَّ وسخطه. ومن خلال المقارنة بين هذين الفريقين أصحاب النعيم وأصحاب الجحيم في هذه الآيات نقف على هذه الأُمور: إنّ أولئك يطوون مدارج رشدهم وكمالهم، في حين أنّ هؤلاء فقدوا كلّ ما يملكون، فهم خاسرون. أُولئك يقدرون الجميل ويشكرونه حتى من أبويهم، وهؤلاء منكرون للجميل معتدون لا أدب لهم حتى مع والديهم. أُولئك مع المقربين إلى الله في الجنّة، وهؤلاء مع الكافرين في النّار، فكلّ منهم يلتحق بأمثاله ومن على شاكلته. أُولئك يتوبون من الهفوات التي تصدر عنهم، ويذعنون للحق، أمّا هؤلاء فهم قوم طغاة عتاة متمردون، أنانيّون ومتكبرون. وممّا يستحق الالتفات أنّ هؤلاء المعاندين يستندون في انحرافاتهم إلى وضع الأقوام الماضين وسيحشرون معهم إلى النّار أيضاً.