{ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ ْ } وجواب الشرط محذوف ، يدل عليه سياق الكلام أي : لأحل بأحد المتلاعنين الكاذب منهما ، ما دعا به على نفسه ، ومن رحمته وفضله ، ثبوت هذا الحكم الخاص بالزوجين ، لشدة الحاجة إليه ، وأن بين لكم شدة الزنا وفظاعته ، وفظاعة القذف به ، وأن شرع التوبة من هذه الكبائر وغيرها .
ثم ختم - سبحانه - هذه الآيات ببيان جانب من فضله - تعالى - على خلقه فقال : { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ الله تَوَّابٌ حَكِيمٌ } .
وجواب " لولا " محذوف . وجاءت الآية بأسلوب الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ، للعناية بشأن مقام الامتنان والفضل من الله - تعالى - عليهم بتشريع هذه الأحكام .
أى : ولوا أن الله - تعالى - تفضل عليكم ورحمكم - أيها المؤمنون - بسبب ما شرعه لكم فى حكم الذين يرمون أزواجهم بالفاحشة . . . لولا ذلك لحصل لكم من الفضيحة ومن الحرج ما لا يحيط به الوصف ، ولكنه - سبحانه - شرع هذه الأحكام سترا للزوجين ، وتخفيفا عليهما . وحضا لهما على التوبة الصادقة النصوح ، وأن الله - تعالى - " تواب " أى : كثير القبول لتوبة التائب متى صدق فيها ، " حكيم " أى : فى كل ما شرعه لعباده .
هذا ، ومن الأحكام التى أخذها العلماء من هذه الآيات ، أن قاذف زوجته بفاحشة الزنا ، إذا لم يأت بأربعة شهداء على صحة ما قاله . فإنه يكون مخيرا بين أن يلاعن ، وبين أن يقام عليه الحد .
بخلاف من قذف أجنبية محصنة بفاحشة الزنا ، فإنه يقام عليه الحد ، إذا لم يأت بأربعة شهداء على أنه صادق فى قوله .
قال بعض العلماء : ولعلك تقول : لماذا كان حكم قاذف زوجته ، مخالفا لكم قاذف الأجنبية ؟ وما السر فى أنه جاء مخففا ؟
والجواب : أنه لا ضرر على الزوج بزنا الأجنبية ؟ وأما زنا زوجته فيلحقه به العار . وفساد البيت . فلا يمكنه الصبر عليه ، ومن الصعب عليه جدا أن يجد البينة . فتكليفه إياها فيه من العسر والحرج ما لا يخفى . وأيضا فإن الغالب فى الرجل أنه لا يرمى زوجته بتلك الفاحشة ، إلا عن حقيقة . لأن فى هذا الرمى إيذاء له ، وهتكا لحرمته ، وإساءة لسمعته . . . فكان رميه إياها بالقذف دليل صدقه . إلا أن الشارع أراد كمال شهادة الحال . بذكر كلمات اللعان المؤكدة بالأيمان ، فجعلها - منضمة إلى قوة جانب الزوج - قائمة مقام الشهود فى قذف الأجنبى " .
كذلك أخذ العلماء من هذه الآيات أن كيفية اللعان بين الزوجين ، أن يبدأ بالزوج فيقول أمام القاضى : أشهد بالله إنى لمن الصادقين ، وفى المرة الخامسة يقول : لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين - أى فيما رمى به زوجته - ، وكذلك المرأة تقول فى لعانها أربع مرات : أشهد بالله إنه لمن الكاذبين . وفى المرة الخامسة تقول : غضب الله عليها إن كان من الصادقين - أى فيما قاله زوجها فى حقها - .
فإذا ما قالا ذلك . سقط عنهما الحد ، وفرق القاضى بينهما فراقا أبديا .
قال القرطبى : " قال مالك وأصحابه : وبتمام اللعان تقع الفرقة بين المتلاعنين فلا يجتمعان أبدا . ولا يتوارثان . ولا يحل له مراجعتها أبدا لا قبل زوج ولا بعده .
وقال أبو حنيفة وغيره : لا تقع الفرقة بعد فراغهما من اللعان حتى يفرق الحاكم بينهما .
وقال الشافعى : إذا أكمل الزوج الشهادة والالتعان : فقد زال فراش امرأته . التعنت أو لم تلتعن . لأن لعانها إنما هو لدرء الحد عنها لا غير . وليس لالتعانها فى زوال الفراش معنى . . . " .
تذييل لما مر من الأحكام العظيمة المشتملة على التفضل من الله والرحمة منه ، والمؤذنة بأنه تواب على من تاب من عباده ، والمنبئة بكمال حكمته تعالى إذ وضع الشدة موضعها والرفق موضعه وكف بعض الناس عن بعض فلما دخلت تلك الأحكام تحت كلي هذه الصفات كان ذكر الصفات تذييلاً .
وجواب ( لولا ) محذوف لقصد تهويل مضمونه فيدل تهويله على تفخيم مضمون الشرط الذي كان سبباً في امتناع حصوله . والتقدير : لولا فضل الله عليكم فدفع عنكم أذى بعضكم لبعض بما شرع من الزواجر لتكالبَ بعضكُم على بعض ، ولولا رحمة الله بكم فقدر لكم تخفيضاً مما شرع من الزواجر في حالة الاضطرار والعذر لما استطاع أحد أن يسكت على ما يرى من مثار الغيرة ، فإذا باح بذلك أُخذ بعقاب وإذا انتصف لنفسه أهلك بعضاً أو سكت على ما لا على مثله يغضى ، ولولا أن الله تواب حكيم لما رد على من تاب فأصلح ما سلبه منه من العدالة وقبول الشهادة .
وفي ذكر وصف « الحكيم » هنا مع وصف { تواب } إشارة إلى أن في هذه التوبة حكمة وهي استصلاح الناس .
وحذف جواب { لولا } للتفخيم والتعظيم وحذفه طريقة لأهل البلاغة ، وقد تكرر في هذه السورة وهو مثل حذف جواب ( لو ) ، وتقدم حذف جواب ( لو ) عند قوله تعالى : { ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب } في سورة البقرة ( 165 ) . وجواب ( لولا ) لم يحضرني الآن شاهد لحذفه وقد قال بعض الأئمة : إن ( لولا ) مركبة من ( لو ) و ( لا ) .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولولا فضل الله عليكم ورحمته} يعني: ونعمته لأظهر المريب يعني: الكاذب منهما، ثم قال: {وأن الله تواب} على التائب {حكيم}، حكم الملاعنة،.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ولولا فضل الله عليكم أيها الناس ورحمته بكم، وأنه عَوّاد على خلقه بلطفه وطَوْله، حكيم في تدبيره إياهم وسياسته لهم لعاجلكم بالعقوبة على معاصيكم وفضَح أهل الذنوب منكم بذنوبهم، ولكنه ستر عليكم ذنوبكم وترك فضيحتكم بها عاجلاً، رحمة منه بكم وتفضلاً عليكم، فاشكروا نعمه وانتهوا عن التقدّم عما عنه نهاكم من معاصيه. وترك الجواب في ذلك، اكتفاء بمعرفة السامع المراد منه.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
لولا فضل الله عليكم ورحمته لفضحكم بما ترتكبون من الفاحشة، ولعاجلكم بالعقوبة أو لهلكتم وما يجري مجراه...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لبقيتم في هذه الواقعة المعضلة، ولم تهتدوا للخروج من هذه الحالة المشكلة.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
والجواب في قوله {ولولا فضل الله عليكم ورحمته...} محذوف تقديره لكشف الزناة بأيسر من هذا، ولأخذهم بعذاب من عنده، أو نحو هذا من المعاني التي أوجب تقديرها إبهام الجواب.
عظم نعمه فيما بينه من هذه الأحكام وفيما أمهل وأبقى ومكن من التوبة ولا شبهة في أن في الكلام حذفا إذ لابد من جواب إلا أن تركه يدل على أنه أمر عظيم لا يكتنه، ورب مسكوت عنه أبلغ من منطوق به.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{ولولا فضل الله} إلى آخره. قال السدّي فضله منته ورحمته نعمته. وقال ابن سلام: فضله الإسلام ورحمته الكتمان. ولما بين تعالى حكم الرامي المحصنات والأزواج كان في فضله ورحمته أن جعل اللعان سبيلاً إلى الستر وإلى درء الحدّ.وجواب {لولا} محذوف. قال التبريزي: تقديره لهلكتم أو لفضحكم أو لعاجلكم بالعقوبة أو لتبين الكاذب.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
ثم ذكر تعالى لطفه بخلقه، ورأفته بهم، وشرعه لهم الفرج والمخرج من شدة ما يكون فيه من الضيق، فقال: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} أي: لحرجتم ولشق عليكم كثير من أموركم، {وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ} [أي]: على عباده -وإن كان ذلك بعد الحلف والأيمان المغلظة- {حَكِيمٌ} فيما يشرعه ويأمر به وفيما ينهى عنه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما حرم الله سبحانه بهذه الجمل الأعراض والأنساب، فصان بذلك الدماء والأموال، علم أن التقدير: فلولا أنه سبحانه خير الغافرين وخير الراحمين، لما فعل بكم ذلك، ولفضح المذنبين، وأظهر سرائر المستخفين، ففسد النظام، وأطبقتم على التهاون بالأحكام، فعطف على هذا الذي علم تقديره قوله: {ولولا فضل الله} أي بما له من الكرم والجمال، والاتصاف بصفات الكمال {عليكم ورحمته} أي بكم {وأن الله} أي الذي أحاط بكل شيء علماً وقدرة {تواب} أي رجاع بالعصاة إليه {حكيم*} يحكم الأمور فيمنعها من الفساد بما يعلم من عواقب الأمور، لفضح كل عاص، ولم يوجب أربعة شهداء ستراً لكم، ولأمر بعقوبته بما توجبه معصيته، ففسد نظامكم، واختل نقضكم وإبرامكم، ونحو ذلك مما لا يبلغ وصفه، فتذهب النفس فيه كل مذهب، فهو كما قالوا: رب مسكوت عنه أبلغ من منطوق به.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وجواب الشرط محذوف، يدل عليه سياق الكلام أي: لأحل بأحد المتلاعنين الكاذب منهما، ما دعا به على نفسه، ومن رحمته وفضله، ثبوت هذا الحكم الخاص بالزوجين، لشدة الحاجة إليه، وأن بين لكم شدة الزنا وفظاعته، وفظاعة القذف به، وأن شرع التوبة من هذه الكبائر وغيرها.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولم يبين ما الذي كان يكون لولا فضل الله ورحمته بمثل هذه التيسيرات، وبالتوبة بعد مقارفة الذنوب.. لم يبينه ليتركه مجملا مرهوبا، يتقيه المتقون. والنص يوحي بأنه شر عظيم.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وفضل الله تعالى ظاهر في أحكامه في الزنى وفي القذف، وفي جمع شمل الأسرة في اللعان. وقد فتح سبحانه وتعالى باب التوبة في قوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} أي لولا فضل الله سبحانه وتعالى فيما شرع وقرر أنه يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن سيئاتهم ولحكمته فيها قرر وقدر وشرع لكان الهول العظيم، وضياع الأمور. ووصف الله سبحانه وتعالى نفسه بأنه تواب، أي كثير التوبة للمذنبين من عباده رحمة بهم، وتهذيبا لنفوسهم، وذلك لأن المذنب إذا أذنب وأحس بذنبه، ذهب عنه غروره وتضرع إلى ربه، والإحساس بالمعصية وطلب العفو عنها يقربه من الله تعالى ويدنيه منه؛ ولذا قال بعض حكماء الصوفية: معصية مذلة خير من طاعة مدلة، ومعصية أورثت ذلا وانكسارا خير من طاعة أورثت دلا وافتخارا، والله عفو غفور.
أي: لولا هذا لفضحتم ولتفاقمت بينكم العداوة، لكن عصمكم فضل الله في هذا التشريع الحكيم المناسب لهذه الحالة. والقذف جريمة بشعة في حق المجتمع كله، تشيع فيه الفاحشة وتتقطع الأواصر، هذا إن كان للمحصنات البعيدات، وهو أعظم إن كان للزوجة، لكن ما بالك إن وقع مثل هذا القول على أم ليست أما لواحد، إنما هي أم لجميع المؤمنين، هي أم المؤمنين السيدة عائشة- رضي الله عنها وأرضاها- فكانت مناسبة أن يذكر السياق ما كان من قذف السيدة عائشة، والذي سمي بحادثة الإفك، لماذا؟. لأن الله تعالى يريد أن يعطينا الأسوة في النبوة نفسها، ويريد أن يسلي عائشة صاحبة النسب العريق وأم المؤمنين، وقد قيل فيها ما قيل، لذلك ستظل السيدة عائشة أسوة لكل شريفة ترمى في عرضها، ويحاول أعداؤها تشويه صورتها، نقول لها: لا عليك، فقد قالوا مثل هذا في عائشة. وتقوم آيات الإفك دليلا على صدق رسول الله (ص) -في البلاغ عن ربه، فذكر أنهم يرمون المحصنات، ويرمون زوجاتهم، والأفظع من ذلك أن يرموا زوجة النبي وأم المؤمنين..
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
أما جواب الشرط الذي تختزنه كلمة لولا، فقد يكون تقديره: لولا فضل الله عليكم ورحمته وتوبته عليكم وحكمته في تدبير أموركم، وتشريع الأحكام التي تنظم حياتكم وتحل مشاكلكم، لتحوّلت حياتكم إلى ساحةٍ للمشاكل الخاصة والعامة، ولانتهيتم إلى السقوط في الخطيئة المميتة، ولاختل نظام حياتكم بالاهتزاز الدائم الذي يثيره وجود القضايا المعقّدة التي لا تنتهي إلى حلّ عادل.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
فهذه الآية إشارة إجمالية إلى تأكيد الأحكام السابقة، لأنّها تدل على أن اللعانَ فضل من الله، إذ يحل المشكلة التي يواجهها الزوجان، بشكل صحيح.