فحينئذ ، من اللّه عليهما بالتوبة وقبولها ، فاعترفا بالذنب ، وسألا من اللّه مغفرته فقالا : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } أي : قد فعلنا الذنب ، الذي نهيتنا عنه ، وضربنا بأنفسنا باقتراف الذنب ، وقد فعلنا سبب الخسار إن لم تغفر لنا ، بمحو أثر الذنب وعقوبته ، وترحمنا بقبول التوبة والمعافاة من أمثال هذه الخطايا .
فغفر اللّه لهما ذلك { وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى }
هذا وإبليس مستمر على طغيانه ، غير مقلع عن عصيانه ، فمن أشبه آدم بالاعتراف وسؤال المغفرة والندم والإقلاع - إذا صدرت منه الذنوب - اجتباه ربه وهداه .
ومن أشبه إبليس - إذا صدر منه الذنب ، لا يزال يزداد من المعاصي - فإنه لا يزداد من اللّه إلا بعدا .
وقال الضحاك بن مُزَاحِم في قوله : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } هي الكلمات التي تلقاها آدم من ربه [ عز وجل ]{[11627]}
{ قالا ربنا ظلمنا أنفسنا } أضررناها بالمعصية والتعريض للإخراج من الجنة . { وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } دليل على أن الصغائر معاقب عليها إن لم تغفر . وقالت المعتزلة لا يجوز المعاقبة عليها مع اجتناب الكبائر ولذلك قالوا : إنما قالا ذلك على عادة المقربين في استعظام الصغير من السيئات واستحقار العظيم من الحسنات .
عطف على جواب ( لَمَّا ) ، فهو ممّا حصل عند ذَوق الشّجرة ، وقد رتب الإخبار عن الأمور الحاصلة عند ذوق الشّجرة على حسب ترتيب حصولها في الوجود . فإنّهما بدت لهما سوآتهما فطفقا يخصفان . وأعقب ذلك نداءُ الله إيّاهما .
وهذا أصل في ترتيب الجمل في صناعة الإنشاء ، إلاّ إذا اقتضى المقام العدول عن ذلك ، ونظير هذا الترتيب ما في قوله تعالى : { ولما جاءت رسلنا لوطاً سيء بهم وضاق بهم ذرعاً وقال هذا يوم عصيب } [ هود : 77 ] وقد بيّنته في كتاب « أصول الإنشاء والخطابة » ولم أعلم أنّي سُبقت إلى الاهتداء إليه .
وقد تأخّر نداء الربّ إياهما إلى أن بدت لهما سوآتهما ، وتحيَّلا لستر عوراتهما ليكون للتّوبيخ وقْعٌ مكين من نفوسهما ، حين يقع بعد أن تظهر لهما مفاسد عصيانهما ، فيعلما أنّ الخير في طاعة الله ، وأنّ في عصيانه ضرّاً .
والنّداء حقيقته ارتفاع الصّوت وهو مشتق من النَّدى بفتح النّون والقصر وهو بُعد الصّوت ، قال مدثار بن شيبان النمري :
فَقُلتُ ادعِي وأدْعُوا إنّ أندى *** لِصَوْتٍ أن يُنادِيَ داعيان
وهو مجاز مشهور في الكلام الذي يراد به طلب إقبال أحد إليك ، وله حروف معروفة في العربيّة : تدلّ على طلب الإقبال ، وقد شاع إطلاق النّداء على هذا حتّى صار من الحقيقة ، وتفرّع عنه طلب الإصغاء وإقبال الذّهن من القريب منك ، وهو إقبال مجازي .
{ وناداهما ربهما } مستعملٌ في المعنى المشهور : وهو طلب الإقبال ، على أنّ الإقبال مجازي لا محالة فيكون كقوله تعالى : { وزكرياء إذا نادى ربه } [ الأنبياء : 89 ] وهو كثير في الكلام .
ويجوز أن يكون مستعملاً في الكلام بصوت مرتفع كقوله تعالى : { كمَثَل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً } [ البقرة : 171 ] وقوله : { ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها } [ الأعراف : 43 ] وقول بشّار :
نَادَيْت إنّ الحبّ أشْعَرني *** قَتْلاً وما أحدثتُ من ذَنْب
ورفع الصّوت يكون لأغراض ، ومحمله هنا على أنّه صوت غضب وتوبيخ .
وظاهر إسناد النّداء إلى الله أنّ الله ناداهما بكلام بدون واسطة مَلك مرسل ، مثللِ الكلام الذي كلّم الله به موسى ، وهذا واقع قبل الهبوط إلى الأرض ، فلا ينافي ما ورد من أن موسى هو أوّل نبيء كلّمه الله تعالى بلا واسطة ، ويجوز أن يكون نداءُ آدم بواسطة أحد الملائكة .
وجملة : { ألم أنهاكما } في موضع البيان لجملة ( ناداهما ) ، ولهذا فصلت الجملة عن التي قبلها .
والاستفهام في { ألم أنهاكما } للتّقرير والتّوبيخ ، وأُولِيَ حرفَ النّفي زيادة في التّقرير ، لأنّ نهي الله إياهما واقع فانتفاؤه منتفا ، فإذا أدخلت أداة التّقرير وأقرّ المقرَّر بضد النّفي كان إقرارُه أقوى في المؤاخذة بموجَبه ، لأنّه قد هُييء له سبيل الإنكار ، لو كان يستطيع إنكاراً ، كما تقدّم عند قوله تعالى : { يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم } الآية في سورة الأنعام ( 130 ) ، ولذلك اعترفا بأنّهما ظلما أنفسهما .
وعطف جملة : { وأقل لكما } على جملة : { أنهكما } للمبالغة في التّوبيخ ، لأنّ النّهي كان مشفوعاً بالتّحذير من الشّيطان الذي هو المغري لهما بالأكل من الشّجرة ، فهما قد أضاعا وصيتين . والمقصود من حكاية هذا القول هنا تذكير الأمّة بعداوة الشيطان لأصل نوع البشر ، فيعلموا أنّها عداوة بين النّوعين ، فيحذروا من كلّ ما هو منسوب إلى الشّيطان ومعدود من وسوسته ، فإنّه لما جُبل على الخبث والخري كان يدعو إلى ذلك بطبعه وكان لا يهنأ له بال ما دام عدوّهُ ومحسودُه في حالة حسنة .
والمُبين أصله المظهر ، أي للعداوة بحيث لا تخفى على من يتتبّع آثار وسوسته وتغريره ، وما عامل به آدمَ من حين خلقه إلى حين غروره به ففي ذلك كلّه إبَانة عن عداوته ، ووجه تلك العداوة أن طبعه ينافي ما في الإنسان من الكمال الفطري المؤيَّد بالتّوفيق والإرشاد الإلهي ، فلا يحب أن يكون الإنسانُ إلاّ في حالة الضّلال والفساد . ويجوز أن يكون المبين مستعملاً مجازاً في القويّ الشّديد لأنّ شأن الوصف الشّديد أن يظهر للعيان .
وقد قالا : { ربنا ظلمنا أنفسنا } اعترافاً بالعصيان ، وبأنّهما علما أن ضر المعصية عاد عليهما ، فكانا ظالمين لأنفسهما إذ جرّا على أنفسهما الدّخولَ في طور ظهور السوآت ، ومشقّة اتّخاذ ما يستر عوراتهما ، وبأنّهما جَرّا على أنفسهما غضب الله تعالى ، فهما في توقع حقوق العذاب ، وقد جزما بأنّهما يكونان من الخاسرين إن لم يغفر الله لهما ، إمّا بطريق الإلهام أو نوع من الوحي ، وإمّا بالاستدلال على العَواقب بالمبادىء ، فإنّهما رأيا من العصيان بوادِىء الضر والشّر ، فعلما أنّه من غضب الله ومن مخالفة وصايته ، وقد أكدا جملة جواب الشّرط بلام القسم ونون التّوكيد إظهاراً لتحقيق الخسران استرحاما واستغفاراً من الله تعالى .