{ إن الإنسان خلق هلوعاً } روى السدي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : الهلوع : الحريص على ما لا يحل له . وقال سعيد بن جبير : شحيحاً . وقال عكرمة : ضجوراً . وقال الضحاك والحسن : بخيلاً . وقال قتادة : جزوعاً . وقال مقاتل : ضيق القلب . والهلع : شدة الحرص ، وقلة الصبر . وقال عطية عن ابن عباس : تفسيره ما بعده ، وهو قوله : { إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعاً }
واستثنت من تلك السجايا نفوس المؤمنين الصادقين ، فقال - تعالى - .
{ إِنَّ الإنسان خُلِقَ . . . } .
المراد بالإِنسان فى قوله - تعالى - : { إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً . إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً . وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً } جنسه لافرد معين منه ، كما فى قوله - تعالى - : { والعصر . إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ . إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات . . } وكما فى قوله - سبحانه - : { خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ } ويدخل فيه الكافر دخولا أولياً ، لأن معظم الصفات التى استثنيت بعد ذلك من صفات المؤمنين الصادقين ، وعلى رأسها قوله - سبحانه - : { إِلاَّ المصلين } .
وقوله : { هَلُوعاً } صيغة مبالغة من الهلع ، وهو إفراط النفس ، وخروجها عن التوسط والاعتدال ، عندما ينزل بها ما يضرها ، أو عند ما تنال ما يسرها .
والمراد بالشر : ما يشمل الفقر والمرض وغيرهما مما يتأذى به الإِنسان .
والمراد بالخير : ما يشمل الغنى والصحة وغير ذلك مما يحبه الإِنسان ، وتميل إليه نفسه .
والجزوع : هو الكثير الجزع . أى : الخوف . والمنوع : هو الكثير المنع لنعم الله - تعالى - وعدم إعطاء شئ منها للمتحاجين إليها .
قال الآلوسى ما ملخصه : قوله : { إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً } الهلع : سرعة الجزع عند مس المكروه ، وسرعة المنع عند مس الخير ، من قولهم : ناقة هلوع ، أى : سريعة السير .
وسئل ابن عباس عن الهلوع فقال : هو كما قال الله - تعالى - : { إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً . وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً } .
ولا تفسير أبين من تفسيره - سبحانه - .
والإِنسان : المراد به الجنس ، أو الكافر . . وأل فى الشر والخير للجنس - أيضا .
والتعبير بقوله : { خُلِقَ هَلُوعاً } يشير إلى أن جنس الإِنسان - إلا من عصم الله - مفطور ومطبوع ، على أنه إذا أصابه الشر جزع ، وإذا مسه الخير بخل . . وأن هاتين الصفتين ليستا من الصفات التى يحبها الله - تعالى - بدليل أنه - سبحانه - قد استثنى المصلين وغيرهم من التلبس بهاتين الصفتين .
وبدليل أن من صفات المؤمن الصادق أن يكون شكورا عند الرخاء صبورا عند الضراء .
وفى الحديث الشريف ، يقول صلى الله عليه وسلم : " شر ما فى الرجل : شح هالع ، وجبن خالع " . وفى حديث آخر يقول صلى الله عليه وسلم : " عجبا لأمر المؤمن ، إن أمره كله له خير ، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ، وإن أصابته صبر فكان خيرا له " .
قال الجمل : وقوله : { جَزُوعاً } و { مَنُوعاً } فيهما ثلاثة أوجه : أحدها : أنهما منصوبان على الحال فى الضمير فى { هَلُوعاً } ، وهو العامل فيهما . والتقدير : هلوعا حال كونه جزوعا وقت مس الشر ، ومنوعا وقت مس الخير : الثانى : أنهما خبران لكان أو صار مضمرة . أى : إذا مسه الشر كان أوصار جزوعا ، وإذا مسه الخير كان أوصار منوعا .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إن الإنسان خلق هلوعا} يعني ضجرا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
الهَلَع: شدّة الجَزَع مع شدّة الحرص والضجر...
ويقال: الهَلُوع: هو الجَزُوع الحريص، وهذا في أهل الشرك...
عن سعيد بن جبير:"إنّ الإنْسانَ خُلِقَ هَلُوعا "قال: شحيحا جَزُوعا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
اختلف في تأويل الهلوع من وجوه، وكل يرجع إلى معنى واحد:
فقال بعضهم: الطامع في اللذات، الطالب لها، والكاره للأثقال، الهارب منها. وقيل: {خلق هلوعا} أي على حب ما يتلذذ به والقيام بطلبه، وبغض ما يتألم به والهرب عنه.
ومنهم من يقول: الهلوع الضجور، وهو موافق للتأويل الأول، لأن الذي يحمله على الضجر، هو ما يصيبه من الألم فيضجر لذلك، أو يضجر من حق الله تعالى.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
أحدها: أنه البخيل، قاله الحسن.
الرابع: الضعيف، رواه أبو الغياث...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
أريد بالإنسان الناس؛ فلذلك استثنى منه إلا المصلين.
والهلع: سرعة الجزع عند مسّ المكروه، وسرعة المنع عند مسّ الخير، من قولهم: ناقة هلواع سريعة السير. وعن أحمد بن يحيى، قال لي محمد بن عبد اللَّه بن طاهر: ما الهلع؟ فقلت: قد فسره اللَّه، ولا يكون تفسير أبين من تفسيره.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله تعالى: {إن الإنسان} عموم لاسم الجنس، لكن الإشارة هنا إلى الكفار، لأن الأمر فيهم وكيد كثير، والهلع جزع واضطراب يعتري الإنسان عند المخاوف وعند المطامع ونحوه قوله عليه السلام: «شر ما في الإنسان شح هالع وجبن خالع».
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
والمعنى أنه لا يصبر على خير ولا شر حتى يفعل فيهما ما لا ينبغي.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان من أعجب العجب أن يقبل على الدنيا أحد يسمع هذا التهديد بالعرض بين يدي الله والعقاب لمن لم يقبل على عبادته سبحانه، بين أن ذلك لما جبله عليه سبحانه وأن الإنسان مقهور مع جبلته إلا من حفظه الله، وذلك دال من كلا الطرفين على عظيم قدرته سبحانه، قال مؤكداً لاقتضاء المقام للتأكيد لأن الإنسان لو خوف بالعرض على بعض الأمراء ما لابس ما يغضبه فكيف بالعزيز الحكيم القدير العليم: {إن الإنسان} أي هذا الجنس، عبر به لما له من الأنس بنفسه والرؤية لمحاسنها والنسيان لربه ولذنبه. ولما دعا الحال إلى بيان الجبلة الداعية إلى ما يقتضيه باختيار صاحبها على وجه كأنه إلجاء بياناً لسهولة الأمور عليه سبحانه بنى للمفعول قوله: {خلق هلوعاً} أي جبل جبلة هو فيها بليغ الهلع وهو أفحش الجزع مع شدة الحرص وقلة الصبر والشح على المال والرغبة فيما لا ينبغي، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه الحريص على ما لا يحل له، وروي عنه أن تفسيره ما بعده.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والآن وقد انتهى من تصوير الهول في مشاهد ذلك اليوم، وفي صورة ذلك العذاب؛ فإنه يتجه إلى تصوير حقيقة النفس البشرية في مواجهة الشر والخير، في حالتي إيمانها وخلوها من الإيمان... وصورة الإنسان -عند خواء قلبه من الإيمان- كما يرسمها القرآن صورة عجيبة في صدقها ودقتها وتعبيرها الكامل عن الملامح الأصيلة في هذا المخلوق؛ والتي لا يعصمه منها ولا يرفعه عنها إلا العنصر الإيماني، الذي يصله بمصدر يجد عنده الطمأنينة التي تمسك به من الجزع عند ملاقاة الشر، ومن الشح عند امتلاك الخير.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وهذا تذييل لَوْم وليس في مَساقه عُذر لمن جمَع فأوعى، ولا هو تعليل لفعله.
والذي استخلصته من تتبع استعمالات كلمة الهلع؛ أن الهلع قلة إمساك النفس عند اعتراء ما يُحزنها أو ما يسرها، أو عند توقع ذلك والإشفاقِ منه. وأما الجزع فمن آثار الهلع، وقد فسر بعض أهل اللغة الهلع بالشره، وبعضهم بالضجر، وبعضهم بالشح، وبعضهم بالجوع، وبعضهم بالجبن عند اللقاء. وما ذكرناه في ضبطه يَجمع هذه المعاني ويريك أنها آثار لصفة الهلع.
ومعنى {خُلق هلوعاً}: أن الهلع طبيعة كامنة فيه مع خلقه تظهر عند ابتداء شعوره بالنافع والمضار فهو من طباعه المخلوقة كغيرها من طباعه البشرية، إذ ليس في تَعلُّق الحال بعاملها دلالة على قصر العامل عليها، ولا في اتصاف صاحب الحال بالحال دلالة على أنه لا صفة له غيرها، وقد تكون للشيء الحالةَ وضدها باختلاف الأزمان والدواعي، وبذلك يستقيم تعلق النهي عن حالٍ مع تَحقق تمكن ضدها من المنهي لأن عليه أن يروض نفسه على مقاومة النقائص وإزالتها عنه، وإِذْ ذَكَر الله الهلع هنا عقب مَذَمَّة الجمع والإِيعاء، فقد أشعر بأن الإِنسان يستطيع أن يكف عن هلعه إذا تدبر في العواقب فيكون في قوله: {خُلق هلوعاً} كناية بالخَلْق عن تمكن ذلك الخُلق منه وغلبته على نفسه.
فهذا الإنسان الهلوع لعدم إيمانه الذي كان من الممكن أن يكسبه طمأنينة وسكينة وتقبلا لتقلبان الحياة تجده مع أول مس من فقر أو احتياج، أو مصيبة، أو شر تجده جزوعا شديد الجزع، والهلع والخوف.
وإذا أصابته نعمة صغرت أو كبرت تجده لا يعترف بفضل الله عليه أنه رزقه، فتجده يمنع الخير الذي وصله عن الناس، فلا يؤدي حق الله عليه، لأنه لا يؤمن بالله.