اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{۞إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ خُلِقَ هَلُوعًا} (19)

قوله : { إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً } .

قال الضحاك : المرادُ بالإنسان هنا الكافر .

وقيل : عام لأنه استثنى منه المصلين ، فدلَّ على أن المراد به الجنس ، فهو كقوله : { إِنَّ الإنسان لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ }[ العصر : 2 ، 3 ] . و «هَلُوعاً » حال مقدرة .

والهلع مُفسَّر بما بعده ، وهو قوله «إذَا ، وإذَا » .

قال ثعلبٌ : سألني محمد بن عبد الله بن طاهر : ما الهلع ؟ .

فقلت : قد فسَّره اللَّهُ ، ولا يكون أبينَ من تفسيره ، وهو الذي إذا ناله شر أظهر شدة الجزع ، وإذا ناله خيرٌ بخل به ومنعه . انتهى .

وأصله في اللغة على ما قال أبو عبيد : أشدّ الحرص وأسوأ الجزع ، وهو قولُ مجاهدٍ وقتادة وغيرهما .

وقد هَلِع - بالكسر - يهلع هلعاً وهلاعاً فهو هلع وهالع وهلوع ، على التكثير .

وقيل : هو الجزع والاضطرابُ السريع عند مسِّ المكروه ، والمنع السَّريعُ عند مسِّ الخير من قولهم : «ناقةٌ هلوَاع » ، أي : سريعة السير ، قال المفسرون : معناه : أنه لا يصبر في خير ولا شر ، حتى يفعل فيهما ما لا ينبغي .

روى السدِّي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : الهِلوَاع ، الحريصُ على ما لا يحل له{[57919]} .

وقال عكرمة : هو الضَّجور{[57920]} .

وقال الضحاك : هو الذي لا يشبع{[57921]} .

والمَنُوع : هو الذي إذا أصاب حق المال منع منه حق الله تعالى .

وقال ابن كيسان : خلق اللَّهُ الإنسان يحبّ ما يسرُّه ، ويرضيه ، ويهربُ مما يكرهه ، ثم تعبّده الله بإنفاق ما يحب والصبر على ما يكرهُ .

وقال أبو عبيدة : الهِلواعُ الذي إذا مسَّهُ الخيرُ لم يشكر ، وإذا مسَّهُ الضُّرُّ لم يَصْبِرْ .

وقال عليه الصلاة والسلام : «شَرُّ مَا أعْطِي العَبْدُ شُحُّ هَالِعٌ ، وجُبْنٌ خَالِعٌ »{[57922]} .

والعرب تقول : ناقةٌ هلواعة ، وهلواع إذا كانت سريعة السَّير خفيفة ؛ قال : [ الكامل ]

4866 - صَكَّاءُ ذِعلِبةٌ إذَا استَدْبَرْتَهَا*** حَرَجٌ إذَا اسْتقَبلْتَهَا هِلواعُ{[57923]}

الذِّعِلب والذِّعلِبَة : النَّاقةُ السَّريعةُ .

فصل في إعراب الآية

«جزُوْعاً ، ومَنُوعاً » فيهما ثلاثةٌ أوجهٍ :

أحدها : أنهما منصوبان على الحال من الضمير في «هَلُوعاً » ، وهو العاملُ فيهما ، والتقدير : هَلُوعاً حال كونه جَزُوعاً ، وقت مسِّ الشَّرِّ ، ومنوعاً وقت مس الخير ، والظَّرفان معمولان لهاتين الحالتين .

وعبَّر أبو البقاء عن هذا الوجه بعبارة أخرى فقال : «جَزُوعاً » حال أخرى ، والعاملُ فيها «هَلُوعاً » .

فقوله : «أخْرَى » يوهم أنها حالٌ ثانية وليست متداخلة لولا قوله : والعامل فيها هلوعاً .

والثاني : أن يكونا خبرين ل «كان » ، أو «صار » مضمرة ، أي : إذا مسَّه الشَّرُّ كان ، أو صار جَزُوعاً ، وإذا مسَّه الخيرُ كان أو صار منوعاً ، قاله مكيٌّ .

وعلى هذا ف «إذا » شرطية ، وعلى الأول ظرف محض ، العامل فيه ما بعده كما تقدم .

الثالث : أنَّهما نعتٌ ل «هَلُوعاً » ، قاله مكيٌّ ، إلاَّ أنَّه قال : وفيه بعد ؛ لأنك تنوي به التقديم بعد «إذا » انتهى .

وهذا الاستبعادُ ليس بشيء ، فإنَّه غايةُ ما فيه تقديمُ الظرف على عامله .

وإنَّما المحذورُ تقديمه معمول النعت على المنعوت .

فصل في كلام القاضي

قال القاضي : قوله تعالى { إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً } نظير قوله : { خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ }[ الأنبياء : 37 ] ، وليس المرادُ أنَّه مخلوقٌ على هذه الصفة ؛ لأن الله - تعالى - ذمَّه عليها ، والله - تعالى - لا يُذمُّ فعله ، ولأنه استثنى المؤمنين الذين جاهدوا أنفسهم في ترك الخصلةِ المذمومةِ ، ولو كانت هذه الخصلة ضرورية حاصلة بخلق الله تعالى ، لما قدروا على تركها .

قال ابن الخطيب{[57924]} : واعلم أنَّ الهلع لفظ واقع على أمرين :

أحدهما : الحالةُ النفسانيةُ التي لأجلها يقدم الإنسانُ على إظهار الجزع والفزع .

والثاني : تلك الأفعالُ الظاهرة من القول والفعل الدالة على تلك الحالةِ النفسانيةِ ، فلا شك أنَّها تحدثُ بخلق الله - تعالى - لأنَّ من خُلقتْ نفسه على تلك الحالةِ لا يُمكِنهُ إزالةُ تلك الحالةِ من نفسه ، بل الأفعال الظَّاهرة من القول والفعل يمكنه تركها والإقدامُ عليها فهي أمورٌ اختياريةٌ .

وأما الحالةُ النفسانيةُ التي هي الهلع في الحقيقة ، فهي مخلوقةٌ على سبيل الاضطرار .


[57919]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/234) عن ابن عباس.
[57920]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/420) عن عكرمة وعزاه إلى ابن المنذر.
[57921]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/420) وعزاه إلى ابن المنذر.
[57922]:أخرجه أبو داود (2511) وأحمد (2/230) والبخاري في "التاريخ الكبير" (6/8-9) وابن حبان(808-موارد) وأبو نعيم في "الحلية" (9/50) والبيهقي (9/170) والقضاعي في "مسند الشهاب" (2/270) رقم (1338) من حديث أبي هريرة. وقال الحافظ العراقي في "تخريج الإحياء" (3/253) رواه أبو داود بسند جيد.
[57923]:ينظر القرطبي 18/188.
[57924]:ينظر الفخر الرازي 30/114.