ثم حكى - سبحانه - ما أمر به ملائكته عندما توجهت إرادته - سبحانه - لخلق آدم ، فقال - تعالى - : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } .
أى : واذكر - أيها العاقل - وقت أن قال ربك - سبحانه - للملائكة - الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون - { إنى خالق } بقدرتى { بشرا } أى : إنسانا ، وعبر عنه بذلك اعتبارا بظهور بشرته وهى ظاهر الجلد { مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } .
يذكر تعالى تنويهه بذكر آدم في ملائكته قبل خلقه له ، وتشريفه إياه بأمره الملائكة بالسجود له . ويذكر تخلف إبليس عدوّه عن السجود له من بين سائر الملائكة ، حَسَدًا وكفرًا ، وعنادًا واستكبارًا ، وافتخارًا بالباطل ، ولهذا قال : { لَمْ أَكُنْ لأسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ } كما قال في الآية الأخرى : { أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ } [ الأعراف : 12 ] وقوله : {[16155]} { أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا } [ الإسراء : 62 ]
وقد روى ابن جرير هاهنا أثرًا غريبًا عجيبًا ، من حديث شبيب بن بشر ، عن عِكْرمة ، عن ابن عباس قال : لما خلق الله الملائكة قال : إني خالق بشرًا من طين ، فإذا سويته{[16156]} فاسجدوا له . قالوا : لا نفعل . فأرسل عليهم نارا فأحرقتهم ، ثم خلق ملائكة فقال لهم مثل ذلك ، [ فقالوا : لا نفعل . فأرسل عليهم نارًا فأحرقتهم . ثم خلق ملائكة أخرى فقال : إني خالق بشرًا من طين ، فإذا أنا خلقته فاسجدوا له فأبوا ، فأرسل عليهم نارا فأحرقتهم . ثم خلق ملائكة فقال : إني خالق بشرا من طين ، فإذا أنا خلقته فاسجدوا له ]{[16157]} قالوا{[16158]} سمعنا وأطعنا ، إلا إبليس كان من الكافرين الأولين{[16159]}
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ رَبّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنّي خَالِقٌ بَشَراً مّن صَلْصَالٍ مّنْ حَمَإٍ مّسْنُونٍ * فَإِذَا سَوّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : و اذكر يا محمد إذْ قالَ رَبّكَ للْمَلائِكَة إنّي خالِقٌ بَشَرا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ فإذَا سَوّيْتُهُ يقول : فإذا صوّرته فعدّلت صورته وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فصار بشرا حيّا فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ سجود تحية وتكرمة لا سجود عبادة . وقد :
حدثني جعفر بن مكرم ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا شبيب بن بشر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لما خلق الله الملائكة قال : إني خالق بشرا من طين ، فإذا أنا خلقته فاسجدوا له فقالوا : لا نفعل . فأرسل عليهم نارا فأحرقتهم . وخلق ملائكة أخرى ، فقال : إني خالق بشرا من طين ، فإذا أنا خلقته فاسجدوا له فأبَوا ، قال : فأرسل عليهم نارا فأحرقتهم . ثم خلق ملائكة أخرى ، فقال : إني خالق بشرا من طين ، فإذا أنا خلقته فاسجدوا له فأبوا ، فأرسل عليهم نارا فأحرقتهم . ثم خلق ملائكة ، فقال : إني خالق بشرا من طين ، فإذا أنا خلقته فاسجدوا له فقالوا : سمعنا وأطعنا . إلا إبليس كان من الكافرين الأوّلين .
{ إذ } نصب بإضمار فعل تقديره : اذكر إذ قال ربك ، و «البشر » هنا آدم ، وهو مأخوذ من البشرة ، وهي وجه الجلد ، في الأشهر من القول . ومنه قول النبي عليه السلام : «وافقوا البشر » وقيل البشرة ما يلي اللحم ، ومنه قولهم في المثل : إنما يعاتب الأديم ذو البشرة{[7165]} لأن تلك الجهة هي التي تبشر .
وأخبر الله تعالى الملائكة بعجب عندهم ، وذلك أنهم كانوا مخلوقين من نور - فهي مخلوقات لطاف - فأخبرهم : أنه لا يخلق جسماً حياً ذا بشرة وأنه يخلقه { من صلصال } .
قال القاضي أبو محمد : «والبشر » والبشارة أيضاً أصلهما البشرة لأنهما فيها يظهران .
و { إذ } مفعول لفعل ( اذكر ) محذوف . وقد تقدم الكلام في نظائره في سورة البقرة وفي سورة الأعراف .
والبشر مرادف الإنسان ، أي أنّي خالق إنساناً . وقد فهم الملائكة الحقيقة بما ألقَى الله فيهم من العلم ، أو أن الله وصف لهم حقيقة الإنسان بالمعنى الذي عبّر عنه في القرآن بالعبارة الجامعة لذلك المعنى .
وإنما ذُكر للملائكة المادة التي منها خلق البشر ليعلموا أن شرف الموجودات بمزاياها لا بمادة تركيبها كما أومأ إلى ذلك قوله : { فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين } .