{ لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ } زعم الخبيث أنهم مفسدون في الأرض ، وسيصنع بهم ما يصنع بالمفسدين ، من تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف ، أي : اليد اليمنى والرجل اليسرى .
{ ثُمَّ لأصَلِّبَنَّكُمْ } في جذوع النخل ، لتختزوا بزعمه { أَجْمَعِينَ } أي : لا أفعل هذا الفعل بأحد دون أحد ، بل كلكم سيذوق هذا العذاب .
فقال السحرة ، الذين آمنوا لفرعون حين تهددهم : { إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ } .
ثم فسر هذا الوعيد بقوله : { لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ } يعني : يقطع يد الرّجُل اليمنى ورجْله اليسرى أو بالعكس . و { لأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ } وقال في الآية الأخرى : { فِي جُذُوعِ النَّخْلِ } [ طه : 71 ] أي : على الجذوع .
قال ابن عباس : وكان{[12018]} أولَ من صلب ، وأولَ من قطع الأيدي والأرجل من خلاف ، فرعون .
القول في تأويل قوله تعالى : { لاُقَطّعَنّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ ثُمّ لاُصَلّبَنّكُمْ أَجْمَعِينَ } . .
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قِيل فرعون للسحرة إذ آمنوا بالله وصدّقوا رسوله موسى : لأُقَطّعَنّ أيْدِيَكُمْ وأرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وذلك أن يقطع من أحدهم يده اليمنى ورجله اليسرى ، أو يقطع يده اليسرى ورجله اليمنى ، فيخالف بين العضوين في القطع ، فمخالفته في ذلك بينهما هو القطع من خلاف .
ويقال : إن أوّل من سنّ هذا القطع فرعون . ثُم لأُصَلّبَنّكُمْ أجمَعِينَ وإنما قال هذا فرعون ، لما رأى من خذلان الله إياه وغلبة موسى عليه السلام وقهره له .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو داود الحَفَريّ وحَبّوية الرازيّ ، عن يعقوب القميّ ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : لأُقَطّعَنّ أيْدِيَكُمّ وأرْجُلَكُمْ مِنْ خِلاف ثُمّ لأُصَلّبَنّكُمْ أجمَعِينَ قال : أوّل من صلب وأوّل من قطع الأيدي والأرجل من خلاف فرعونُ .
َفرع على الإنكار والتوبيخ الوعيدَ بقوله : { فسوف تعلمون } ، وحذف مفعول { تعلمون } لقصد الإجمال في الوعيد لإدخال الرعب ، ثم بيّنه بجملة { لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف } . ووقوع الجمع معرفاً بالإضافة يكسبه العموم فيعم كل يدَ وكل رجْل من أيدي وأرجل السحرة .
و { منْ } في قوله : { من خلاف } ابتدائية لبيان موضع القطع بالنسبة إلى العضو الثاني ، وقد تقدم بيان نظيرها عند قوله تعالى : { أو تُقطّعُ أيْدِيهمْ وَأرْجُلُهمْ من خلاف } في سورة المائدة ( 33 ) . فالمعنى : أنه يقطع من كل ساحر يداً ورجلاً متخالفتي الجهة غير متقابلتيها ، أي : إنْ قطعَ يدَه اليمنى قطعَ رجله اليسرى والعكس ، وإنما لم يقطع القوائم الأربع لأن المقصود بقاء الشخص متمكناً من المشي متوكئاً على عود تحت اليد من جهة الرجل المقطوعة .
ودلت { ثُم } على الارتقاء في الوعيد بالثلب ، والمعروف أن الصلب أن يقتل المرء مشدوداً على خشبة ، وتقدم في قوله : { وما قتلوه وما صلبوه } في سورة النساء ( 157 ) ، وعلى هذا يكون توعّدهم بنوعين من العذاب . والوعيد موجّه إلى جماعتهم فعلم أنه جعلهم فريقين : فريق يعذب بالقطع من خلاف ، وفريق يعذب بالصلب والقتل ، فعلى هذا ليس المعنى على أنه يصلبهم بعد أن يقطعهم ، إذ لا فائدة في تقييد القطع بكونه من خلاف حينئذٍ ويحتمل أن يراد بالصلب : الصلب دون قتل ، فيكون أراد صلبهم بعد القطع ليجعلهم نكالاً ينذعر بهم الناس ، كيلا يُقدم أحد على عصيان أمره من بعد ، فتكون ( ثم ) دالة على الترتيب والمهلة ، ولعل المهلة قصد منها مدة كيّ واندمال موضع القطع ، وهذا هو المناسب لظاهر قوله : { أجمعين } المفيد أن الصلب ينالهم كلهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
يعني اليد اليمنى والرجل اليسرى، أو الرجل اليمنى واليد اليسرى.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قِيل فرعون للسحرة إذ آمنوا بالله وصدّقوا رسوله موسى:"لأُقَطّعَنّ أيْدِيَكُمْ وأرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ" وذلك أن يقطع من أحدهم يده اليمنى ورجله اليسرى، أو يقطع يده اليسرى ورجله اليمنى، فيخالف بين العضوين في القطع، فمخالفته في ذلك بينهما هو القطع من خلاف...
"ثُم لأُصَلّبَنّكُمْ أجمَعِينَ "وإنما قال هذا فرعون، لما رأى من خذلان الله إياه وغلبة موسى عليه السلام وقهره له.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
هذا لجهله بأشدّ العقوبة والنكال، وإلا لم يوعدهم بقطع الأيدي والأرجل من خلاف؛ إذ ذلك أيسر وأقل في العقوبة من القطع من جانب، والقطع من جانب أشد وأنكل من القطع من خلاف؛ إذ القطع من خلاف لا يمنع القيام ببعض المنافع، ولا يعمل في إتلاف النفس؛ إذ جعل ذلك حدّا في بعض العقوبات، ولم يجعل القطع من جانب عقوبة بحال، فدل أنه أشد وأنكل، ويعمل في إهلاك النفس، والقطع من خلاف لا يعمل، دل أنه لجهله ما قال...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
فرجع فرعون في مقالته هذه إلى الخذلان والغشم وعادة ملوك السوء إذا غولبوا.
والظاهر من هذه الآيات أن فرعون توعد، وليس في القرآن نص على أنه أنفذ ذلك وأوقعه...
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
{ثم لأصلّبنكم أجمعين} تفضيحا لكم وتنكيلا لأمثالكم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان مقصود هذه السورة الإنذار، فذكر فيها ما وقع لموسى عليه السلام والسحرة على وجه يهول ذكر ما كان من أمر فرعون على وجه يقرب من ذلك، فعبر بحرف التراخي لأن فيه -مع الإطناب الذي يكون شاغلاً لأصحابه عما أدهشهم مما رأوه- تعظيماً لأمر الصلب. فيكون أرهب للسحرة ولمن تزلزل بهم من قومه فقال: {ثم لأصلبنكم} أي أعلقنكم ممدودة أيديكم لتصيروا على هيئة الصليب، أو حتى يتقاطر صليبكم وهو الدهن الذي فيكم {أجمعين} أي لا أترك منكم أحداً لأجعلكم نكالاً لغيركم...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{لأقطّعنّ أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلّبنّكم أجمعين} أي أقسم لأفعلن كذا وكذا في عقابكم والتنكيل بكم، وهو قطع الأيدي والأرجل من خلاف كأن يقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى أو العكس، ثم لأصلبن كل واحد منكم وهو على هذه الحالة المشوهة لتكونوا عبرة لمن تحدثه نفسه بالكيد لنا، أو بالخروج عن سلطاننا، والترفع عن الخضوع لعظمتنا. وقد تقدم الكلام على هذه الألفاظ في العقاب الذي هدد به البغاة من سورة المائدة. ومن المعقول ما قاله بعض المفسرين من كون اتهام فرعون للسحرة بالمكر والكيد له وللمصريين، وبتواطئهم مع موسى للإدالة منهم لبني إسرائيل – إنما كان تمويها على قومه المصريين لئلا يتبعوا السحرة في الإيمان، ويقع ما خافه وقدره واتهم به موسى عليه السلام، فهو على عتوه على الخلق، وعلوه في الأرض، قد خاف عاقبه إيمان الشعب، وافتقر على ادعائه الربوبية إلى إيهامهم بأنه لا ينتقم من السحرة إلا حبا فيهم، ودفاعا عنهم، واستبقاء لاستقلالهم في وطنهم ومحافظتهم على دينهم، وكذلك يفعل كل ملك وكل رئيس مستبد في شعب يخاف أن ينتقض عليه باجتماع كلمته على زعيم آخر بدعوة دينية أو سياسية، وما من شعب عرف نفسه وحقوقه وتعارف بعض أفراده وتعاونوا على صون هذه الحقوق، إلا وتعذر استبداد الأفراد فيهم وإن كانوا ملوكا جبارين...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهكذا أطلق فرعون ذلك التوعد الوحشي الفظيع إنه التعذيب والتشوية والتنكيل.. وسيلة الطواغيت في مواجهة الحق، الذي لا يملكون دفعه بالحجة والبرهان...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والوعيد موجّه إلى جماعتهم فعلم أنه جعلهم فريقين: فريق يعذب بالقطع من خلاف، وفريق يعذب بالصلب والقتل، فعلى هذا ليس المعنى على أنه يصلبهم بعد أن يقطعهم، إذ لا فائدة في تقييد القطع بكونه من خلاف حينئذٍ ويحتمل أن يراد بالصلب: الصلب دون قتل، فيكون أراد صلبهم بعد القطع ليجعلهم نكالاً ينذعر بهم الناس، كيلا يُقدم أحد على عصيان أمره من بعد، فتكون (ثم) دالة على الترتيب والمهلة، ولعل المهلة قصد منها مدة كيّ واندمال موضع القطع، وهذا هو المناسب لظاهر قوله: {أجمعين} المفيد أن الصلب ينالهم كلهم.
هذا ما هدد به فرعون ونفذ واختص السحرة بذلك؛ لأنهم أول من تمرد عليه من الشعب، وخشى أن يسري التمرد فشدد العقاب، وترك موسى وأخاه مؤقتا؛ لأنهما لم يكونا من المصريين، بل كانا من بني إسرائيل، ومع ذلك سينتبه إليهم.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
أصدر الحكم بخياله وهواه، لا بعقله والبرهان وهو أغلظ عقاب:
{لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ}.
أقسم الطاغي بما يقسم به عنده أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، أي يقطع من جانب يدا، ويقطع من الجانب الآخر رجلا، وأقسم أيضا ليصلبنهم أجمعين، ولا يستثني أحدا منهم، وقد صرح في آية أخرى بأنه يصلبهم في جذوع النخل.
وهكذا يبتكر الطغيان هذا العقاب الشديد...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وفي الحقيقة كان مراده أن يقتلهم بالتعذيب والتنكيل، ويجعل من هذا المشهد الرهيب درساً للآخرين، لأن قطع الأيدي والأرجل، ثمّ الصلب على الشجر أمام الناس، ومنظر تدفق الدم من أجسامهم وما يرافق هذا من حالات النزع فوق المشانق إلى أن يموتوا، سيكون عبرة لمن يعتبر...