وكما بدأ القرآن حديثه مع اليهود بندائهم بأحب أسمائهم إليهم ، فقد اختتمه - أيضاً - بهذا النداء فقال : { يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ . . . }
في هاتين الآيتين تكرير لتذكير بني إسرائيل بما سبق أن ذكروا به في صدر الحديث معهم في هذه السورة ، وذلك لأهمية ما ناداهم من أجله وأهمية الشيء تقتضي تكرار الأمر به إبلاغاً في الحجة وتأكيداً للتذكرة .
قال القاضي : ولما صدر القرآن قصة بني إسرائيل بذكر النعم والقيام بحقوقها والحذر من إضاعتها ، والخوف من الساعة وأهوالها ، كرر ذلك وختم به الكلام معهم ، مبالغاً في النصح وإيذاناً بأنه فذلكه القضية ، والمقصود من القصة .
هذا وبعد أن ذكر الله - تعالى - في الآيات السابقة نعمه على بني إسرائيل ، وبين كيف كانوا يقابلون النعم بكفر وعناد ، ويأتون منكرات في الأقوال والأعمال ، وختم الحديث معهم بإنذار بالغ ، وتذكير بيوم لا يغني فيه أحد عن أحد شيئاً ، بعد كل ذلك واصل القرآن حديثه عن قصة إبراهيم - عليه السلام - لأنهم هم والمشركون ينتمون إليه ويقرون بفضله ، فقال - تعالى - : { وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ . . . }
{ وَاتّقُواْ يَوْماً لاّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ }
وهذه الآية ترهيب من الله جل ثناؤه للذين سلفت عظته إياهم بما وعظهم به في الآية قبلها . يقول الله لهم : واتقوا يا معشر بني إسرائيل المبدّلين كتابي وتنزيلي ، المحرّفين تأويله عن وجهه ، المكذّبين برسولي محمد صلى الله عليه وسلم ، عذابَ يوم لا تقضي فيه نفس عن نفس شيئا ، ولا تغني عنها غناءً ، أن تهلكوا على ما أنتم عليه من كفركم بي ، وتكذيبكم رسولي ، فتموتوا عليه فإنه يوم لا يقبل من نفس فيما لزمها فدية ، ولا يشفع فيما وجب عليها من حقّ لها شافع ، ولا هم ينصرهم ناصر من الله إذا انتقم منها بمعصيتها إياه .
وقد مضى البيان عن كل معاني هذه الآية في نظيرتها قبل ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع .
{ وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ }( 123 )
وقد تقدم القول على مثل هذه الآية إلى قوله : { ينصرون } ومعنى { لا تنفعها شفاعة } أي ليست ثم ، وليس( {[1209]} ) المعنى أنه يشفع فيهم أحد فيرد ، وإنما نفى أن تكون ثم شفاعة على حد ما هي في الدنيا ، وأما الشفاعة التي هي في تعجيل الحساب فليست بنافعة لهؤلاء الكفرة في خاصتهم ، وأما الأخيرة التي هي بإذن من الله تعالى في أهل المعاصي من المؤمنين فهي بعد أن أخذ العقاب حقه ، وليس لهؤلاء المتوعدين من الكفار منها شيء .
وقوله : { ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة } مراد منه أنه لا عدل فيقبل ولا شفاعة شفيع يجدونه فتقبل شفاعته لأن دفع الفداء متعذر وتوسط الشفيع لمثلهم ممنوع إذ لا يشفع الشفيع إلا لمن أذن الله له . قال ابن عرفة فيكون نفي نفع الشفاعة هنا من باب قوله : * على لا حب لا يهتدى بمناره *{[161]} يريد أنها كناية عن نفي الموصوف بنفي صفته الملازمة له كقولهم : * ولا ترى الضب بها ينجَحِر *{[162]} وهو ما يعبر عنه المناطقة بأن السالبة تصدق مع نفي الموضوع وإنما يكون ذلك بطريق الكناية وأما أن يكون استعمالاً في أصل العربية فلا والمناطقة تبعوا فيه أساليب اليونان .
والقول في بقية الآيات مستغنى عنه بما تقدم في نظيرتها .
وهنا ختم الحجاج مع أهل الكتاب في هذه السورة وذلك من براعة المقطع .