ثم فسرها فقال :{ فأصحاب الميمنة } هم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة ، وقال ابن عباس : هم الذين كانوا على يمين آدم حين أخرجت الذرية من صلبه ، وقال الله لهم : هؤلاء في الجنة ولا أبالي . وقال الضحاك : هم الذين يعطون كتبهم بأيمانهم . وقال الحسن والربيع : هم الذين كانوا ميامين مباركين على أنفسهم ، وكانت أعمارهم في طاعة الله وهم التابعون بإحسان ، ثم عجب نبيه صلى الله عليه وسلم فقال : { ما أصحاب الميمنة } وهذا كما يقال : زيد ما زيد ! يراد زيد شديد .
ثم فصل - سبحانه - الحديث عن الأزواج الثالثة فقال : { فَأَصْحَابُ الميمنة مَآ أَصْحَابُ الميمنة وَأَصْحَابُ المشأمة مَآ أَصْحَابُ المشأمة والسابقون السابقون } .
والمراد بأصحاب الميمنة ، أولئك السعداء الذين يؤتون كتبهم يوم القيامة بأيمانهم ، أو لأنهم يذهب بهم ذات اليمين إلى الجنة . .
أو سموا بذلك ، لأنهم ميامين ، أى : أصحاب بركة على أنفسهم ، لأنهم أطاعوا ربهم وخالفوا أهواءهم . . . فكانت عاقبتهم الجنة .
وسمى الآخرون بأصحاب المشأمة ، لأنهم مشائيم ، أى : أصحاب شؤم على أنفسهم ، لأنهم طغوا وآثروا الحياة الدنيا ، فكانت عاقبتهم النار .
أو سموا بذلك ، لأنهم يؤتون كتبهم بشمائلهم . أو لأنهم يذهب بهم ذات الشمال إلى النار . . والعرب تسمى الشمال شؤما ، كما تسمى اليمين يمنا .
والتعبير بقوله : { مَآ أَصْحَابُ الميمنة } للتفخيم والإعلاء من شأنهم ، كما أن التعبير بقوله - تعالى - : { مَآ أَصْحَابُ المشأمة } للتحقير والتعجيب من حالهم .
وجملة : { مَآ أَصْحَابُ الميمنة } مكونة من مبتدأ - وهو ما الاستفهامية - ، وخبر وهو ما بعدها ، وهذه الجملة خبر لقوله { فَأَصْحَابُ الميمنة } . ووضع فيها الاسم الظاهر موضع الضمير للتفخيم ، بخلاف وضعه فى أصحاب المشأمة ، فهو للتشنيع عليهم .
وشبيه بهذا الأسلوب قوله - تعالى - : { الحاقة مَا الحاقة } و { القارعة مَا القارعة }
ولا يؤتى بمثل هذا التركيب إلا فى موضاع التفخيم ، أو التعجيب .
والمعنى : فأصحاب الميمنة ، أى شىء هم فى أحوالهم وصفاتهم الكرمة ، وأصحابه المشأمة ، أى شىء هم فى أحوالهم وصفاتهم القبيحة ؟
وقد ترك هذا الاستفهام التعجيبى على إبهامه ، لتذهب النفس فيه كل مذهب من الثواب أو العقاب . .
وقوله تعالى : { فأصحاب الميمنة } ابتداء ، و : { ما } ابتداء ثان . و : { أصحاب الميمنة } خبرها ، والجملة خبر الابتداء الأول ، وفي الكلام معنى التعظيم ، كما تقول زيد ما زيد ، ونظير هذا في القرآن كثير ، و { الميمنة } : أظهر ما في اشتقاقها أنها من ناحية اليمين ، وقيل من اليمن ، وكذلك { المشأمة } إما أن تكون من اليد الشؤمى ، وإما أن تكون من الشؤم ، وقد فسرت هذه الآية بهذين المعنيين ، إذ { أصحاب الميمنة } الميامين على أنفسهم ، قاله الحسن والربيع ، ويشبه أن اليمن والشؤم إنما اشتقا من اليمنى والشؤمى وذلك على طريقهم في السانح والبارح{[10878]} ، وكذلك اليمن والشؤم اشتقا من اليمنى والشؤمى{[10879]} .
قد علمت عند تفسير قوله تعالى : { إذا وقعت الواقعة } [ الواقعة : 1 ] الوجه في متعلق { إذا } وإذ قد وقع قوله : { وكنتم أزواجاً ثلاثة } [ الواقعة : 7 ] عطفاً على الجمل التي أضيف إليها ( إذَا ) من قوله : { إذا رجت الأرض رجا } [ الواقعة : 4 ] كان هو محط القصد من التوقيت ب ( إذا ) الثانية الواقعة بدلاً من ( إذا ) الأولى وكلتاهما مضمن معنى الشرط ، فكان هذا في معنى الجزاء ، فلك أن تجعل الفاء لربط الجزاء مع التفصيل للإجمال ، وتكون جملة { فأصحاب الميمنة } جواباً ل ( إذا ) الثانية آئلاً إلى كونه جواباً ل ( إذا ) الأولى لأن الثانية مبدلة منها ، ولذلك جاز أن يكون هذا هو جواب ( إذا ) الأولى فتكون الفاء مستعملة في معنييها كما تقدم عند قوله تعالى : { ليس لوقعتها كاذبة } [ الواقعة : 2 ] .
وقد أفاد التفصيل أن الأصناف ثلاثة :
صنفٌ منهم أصحاب الميمنة ، وهم الذين يجعلون في الجهة اليمنى في الجنة أو في المحشر . واليمين جهة عناية وكرامة في العرف ، واشتقت من اليمْن ، أي البركة .
وصنف أصحاب المشأمة ، وهي اسم جهة مشتقة من الشؤم ، وهو ضد اليمن فهو الضر وعدم النفع وقد سميا في الآية الآتية { أصحابَ اليمين } [ الواقعة : 27 ] و { أصحاب الشمال } [ الواقعة : 41 ] ، فجعل الشمال ضدَّ اليمين كما جُعل المشأمة هنا ضد الميمنة إشعاراً بأن حالهم حال شؤم وسوء ، وكل ذلك مستعار لما عرف في كلام العرب من إطلاق هذين اللفظين على هذا المعنى الكنائي الذي شاع حتى ساوى الصريح ، وأصله جاءٍ من الزجر والعيافة إذ كانوا يتوقعون حصول خير من أغراضهم من مرور الطير أو الوحش من يمين الزاجر إلى يساره ويتوقعون الشر من مروره بعكس ذلك ، وقد تقدم تفصيله عند قوله تعالى : { قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين } في سورة الصافات ( 28 ) ، وتقدم شيء منه عند قوله تعالى : { يَطَّيَّروا بموسى ومن معه } في سورة الأعراف ( 131 ) ، وعند قوله تعالى : { قالوا إنا تَطيرنا بكم } في سورة يس ( 18 ) .
ولذلك استغني هنا عن الإخبار عن كلا الفريقين بخبر فيه وصف بعض حاليهما بذكر ما هو إجمال لحاليهما مما يشعر به ما أضيف إليه أصحابه من لفظي الميمنة والمشأمة بطريقة الاستفهام المستعمل في التعجيب من حال الفريقين في السعادة والشقاوة ، وهو تعجيب ترك على إبهامه هنا لتذهب نفس السامع كل مذهب ممكن من الخير والشر ، ف ( ما ) في الموضعين اسم استفهام .
و ( أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ) خبرَانِ عن ( مَا ) في الموضعين كقوله تعالى : { الحاقة ما الحاقة } [ الحاقة : 1 ، 2 ] وقوله : { القارعة ما القارعة } [ القارعة : 1 ، 2 ] .
وإظهار لفظي { أصحاب الميمنة } و { أصحاب المشئمة } بعد الاستفهامين دون الإِتيان بضميريْهما . لأن مقام التعجيب والتشهير يقتضي الإظهار بخلاف مقام قوله تعالى : { وما أدراك ماهية } [ القارعة : 10 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم أخبر عنهم، فقال: {فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة} يقول: ما لأصحاب اليمين من الخير والكرامة في الجنة...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"فأصحَابُ المَيْمَنَةِ ما أصحَابُ المَيْمَنَةِ "وهذا بيان من الله عن الأزواج الثلاثة، يقول، جل ثناؤه: وكنتم أزواجا ثلاثة: أصحاب الميمنة، وأصحاب المشأمة، والسابقون، فجعل الخبر عنهم، مغنيا عن البيان عنهم، على الوجه الذي ذكرنا، لدلالة الكلام على معناه، فقال: "فَأصحَابُ المَيْمَنَةِ ما أصحَابُ المَيْمَنَةِ" يعجّب نبيه محمدا منهم، وقال: "ما أصحَابُ اليَمِينِ" الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة، أيّ شيء أصحاب اليمين.
"وأصحَابُ المَشأَمَةِ ما أصحَابُ المَشأَمَةِ" يقول تعالى ذكره: وأصحاب الشمال الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة} {وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة} يحتمل وجهين:
أحدهما: أصحاب الميمنة من اليمن، وأصحاب المشأمة من الشؤم.
والثاني: سمي هؤلاء أصحاب الميمنة لأنهم أصحاب الطيبات، واليمين هي التي تستعمل في الطيبات، وسمي الكفرة أصحاب الشمال لأنهم أصحاب الخبائث، والشمال تستعمل في الخبائث. وعلى ذلك قوله: {فمن أوتي كتابه بيمينه} [الإسراء: 71 و...
] لأن في كتبهم طيبات وخيرات، وفي كتب الكفر خبائث، فتؤتي بشمالهم. وقيل: سموا أصحاب الميمنة والمشأمة لما ذكر الله تعالى: {فأما من أوتي كتابه بيمينه} {فسوف يحاسب حسابا يسيرا} [الانشقاق: 7و8] وقوله: {وأما من أوتي كتابه وراء ظهره} [الانشقاق: 10]. فكذا فكل من أوتي كتابه بيمينه فهو [من] أصحاب اليمن، ومن أوتي كتابه بشماله فهو من أصحاب المشأمة... أو على التعظيم لأولئك لعظم ما يعطيهم. وكذلك قوله تعالى: {وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة} يخرج على هذين الوجهين: على التعجب والتعظيم لما يحل بهم، وكذلك قوله تعالى: {والسابقون السابقون} يخرج على هذا أيضا: فلان ما أمر فلان؟ فيقال: فلان فلان على تعظيم أمره وشأنه. فعلى ذلك هذا.
المسألة الثانية: {أصحاب الميمنة} هم أصحاب الجنة، وتسميتهم بأصحاب الميمنة إما لكونهم من جملة من كتبهم بأيمانهم، وإما لكون أيمانهم تستنير بنور من الله تعالى، كما قال تعالى: {يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم} وإما لكون اليمين يراد به الدليل على الخير، والعرب تتفاءل بالسانح، وهو الذي يقصد جانب اليمين من الطيور والوحوش عند الزجر... وأما الميمنة فهي مفعلة كأنه الموضع الذي فيه اليمين وكل ما وقع بيمين الإنسان في جانب من المكان، فذلك موضع اليمين فهو ميمنة كقولنا: ملعبة.
المسألة الثالثة: جعل الله تعالى الخلق على ثلاثة أقسام دليل غلبة الرحمة، وذلك لأن جوانب الإنسان أربعة، يمينه وشماله، وخلفه وقدامه، واليمين في مقابلة الشمال والخلف في مقابلة القدام، ثم إنه تعالى أشار بأصحاب اليمين إلى الناجين الذين يعطون كتبهم بأيمانهم وهم من أصحاب الجانب الأشرف المكرمون، وبأصحاب الشمال إلى الذين حالهم على خلاف أصحاب اليمين وهم الذين يعطون كتبهم بشمائلهم مهانون، وذكر السابقين الذين لا حساب عليهم ويسبقون الخلق من غير حساب بيمين أو شمال، أن الذين يكونون في المنزلة العليا من الجانب الأيمن، وهم المقربون بين يدي الله يتكلمون في حق الغير ويشفعون للغير ويقضون أشغال الناس وهؤلاء أعلى منزلة من أصحاب اليمين، ثم إنه تعالى لم يقل: في مقابلتهم قوما يكونون متخلفين مؤخرين عن أصحاب الشمال لا يلتفت إليهم لشدة الغضب عليهم، وكانت القسمة في العادة رباعية، فصارت بسبب الفضل ثلاثية وهو كقوله تعالى: {فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات} لم يقل منهم متخلف عن الكل.
المسألة الرابعة: ما الحكمة في الابتداء بأصحاب اليمين والانتقال إلى أصحاب الشمال ثم إلى السابقين مع أنه في البيان بين حال السابقين ثم أصحاب الشمال على الترتيب؟
والجواب أن نقول: ذكر الواقعة وما يكون عند وقوعها من الأمور الهائلة إنما يكون لمن لا يكون عنده من محبة الله تعالى ما يكفه مانعا عن المعصية، وأما الذين سرهم مشغول بربهم فلا يحزنون بالعذاب، فلما ذكر تعالى: {إذا وقعت الواقعة} وكان فيه من التخويف مالا يخفى وكان التخويف بالذين يرغبون ويرهبون بالثواب والعقاب أولى ذكر ما ذكره لقطع العذر لا نفع الخبر، وأما السابقون فهم غير محتاجين إلى ترغيب أو ترهيب فقدم سبحانه أصحاب اليمين الذين يسمعون ويرغبون ثم ذكر السابقين ليجتهد أصحاب اليمين ويقربوا من درجتهم...
المسألة الخامسة: ما معنى قوله: {ما أصحاب الميمنة}؟ نقول: هو ضرب من البلاغة وتقريره هو أن يشرع المتكلم في بيان أمر، ثم يسكت عن الكلام ويشير إلى أن السامع لا يقدر على سماعه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويبدأ بالحديث عن أصحاب الميمنة -أو أصحاب اليمين- ولكنه لا يفصل عنهم الحديث إنما يصفهم باستفهام عنهم للتهويل والتضخيم: (فأصحاب الميمنة. ما أصحاب الميمنة؟)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
...وهو تعجيب ترك على إبهامه هنا لتذهب نفس السامع كل مذهب ممكن من الخير والشر ف (ما) في الموضعين اسم استفهام. وإظهار لفظي {أصحاب الميمنة} و {أصحاب المشئمة} بعد الاستفهامين دون الإِتيان بضميريْهما. لأن مقام التعجيب والتشهير يقتضي الإظهار بخلاف مقام قوله تعالى: {وما أدراك ماهية} [القارعة: 10].
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
...كلمة (ميمنة) من مادّة (يمن) التي أخذت من معنى السعادة، وعلى هذا التّفسير فإنّ القسم الأوّل هم طائفة السعداء وأهل الحبور والسرور...