مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{فَأَصۡحَٰبُ ٱلۡمَيۡمَنَةِ مَآ أَصۡحَٰبُ ٱلۡمَيۡمَنَةِ} (8)

المسألة الثانية : { أصحاب الميمنة } هم أصحاب الجنة ، وتسميتهم بأصحاب الميمنة إما لكونهم من جملة من كتبهم بأيمانهم ، وإما لكون أيمانهم تستنير بنور من الله تعالى ، كما قال تعالى : { يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم } وإما لكون اليمين يراد به الدليل على الخير ، والعرب تتفاءل بالسانح ، و[ هو ] الذي يقصد جانب اليمين من الطيور والوحوش عند الزجر والأصل فيه أمر حكمي ، وهو أنه تعالى لما خلق الخلق كان له في كل شيء دليل على قدرته واختياره ، حتى إن في نفس الإنسان له دلائل لا تعد ولا تحصى ، ودلائل الاختيار إثبات مختلفين في محلين متشابهين ، أو إثبات متشابهين في محلين مختلفين ، إذ حال الإنسان من أشد الأشياء مشابهة فإنه مخلوق من متشابه ، ثم إنه تعالى أودع في الجانب الأيمن من الإنسان قوة ليست في الجانب الأيسر لو اجتمع أهل العلم على أن يذكروا له مرجحا غير قدرة الله وإرادته لا يقدرون عليه ، فإن كان بعضهم يدعى كياسة وذكاء يقول : إن الكبد في الجانب الأيمن ، وبها قوة التغذية ، والطحال في الجانب الأيسر ، وليس فيه قوة ظاهرة النفع فصار الجانب الأيمن قويا لمكان الكبد على اليمين ؟ فنقول : هذا دليل الاختيار لأن اليمين كالشمال ، وتخصيص الله اليمين يجعله مكان الكبد دليل الاختيار إذا ثبت أن الإنسان يمينه أقوى من شماله ، فضلوا اليمين على الشمال ، وجعلوا الجانب الأيمن للأكابر ، وقيل : لمن له مكانة هو من أصحاب اليمين ، ووضعوا له لفظا على وزن العزيز ، فينبغي أن يكون الأمر على ذلك الوجه كالسميع والبصير ، ومالا يتغير كالطويل والقصير ، وقيل له : اليمين ، وهو يدل على القوة ، ووضعوا مقابلته اليسار على الوزن الذي اختص به الاسم المذموم عند النداء بذلك الوزن ، وهو الفعال ، فإن عند الشتم والنداء بالاسم المذموم يؤتى بهذا الوزن مع البناء على الكسر ، فيقال : يا فجار يا فساق يا خباث ، وقيل : اليمين اليسار ، ثم بعد ذلك استعمل في اليمين ، وأما الميمنة فهي مفعلة كأنه الموضع الذي فيه اليمين وكل ما وقع بيمين الإنسان في جانب من المكان ، فذلك موضع اليمين فهو ميمنة كقولنا : ملعبة .

المسألة الثالثة : جعل الله تعالى الخلق على ثلاثة أقسام دليل غلبة الرحمة ، وذلك لأن جوانب الإنسان أربعة ، يمينه وشماله ، وخلفه وقدامه ، واليمين في مقابلة الشمال والخلف في مقابلة القدام ثم إنه تعالى أشار بأصحاب اليمين إلى الناجين الذين يعطون كتبهم بأيمانهم وهم من أصحاب الجانب الأشرف المكرمون ، وبأصحاب الشمال إلى الذين حالهم على خلاف أصحاب اليمين وهم الذين يعطون كتبهم بشمائلهم مهانون وذكر السابقين الذين لا حساب عليهم ويسبقون الخلق من غير حساب بيمين أو شمال ، أن الذين يكونون في المنزلة العليا من الجانب الأيمن ، وهم المقربون بين يدي الله يتكلمون في حق الغير ويشفعون للغير ويقضون أشغال الناس وهؤلاء أعلى منزلة من أصحاب اليمين ، ثم إنه تعالى لم يقل : في مقابلتهم قوما يكونون متخلفين مؤخرين عن أصحاب الشمال لا يلتفت إليهم لشدة الغضب عليهم وكانت القسمة في العادة رباعية فصارت بسبب الفضل ثلاثية وهو كقوله تعالى : { فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات } لم يقل منهم متخلف عن الكل .

المسألة الرابعة : ما الحكمة في الابتداء بأصحاب اليمين والانتقال إلى أصحاب الشمال ثم إلى السابقين مع أنه في البيان بين حال السابقين ثم أصحاب الشمال على الترتيب ( والجواب ) أن نقول : ذكر الواقعة وما يكون عند وقوعها من الأمور الهائلة إنما يكون لمن لا يكون عنده من محبة الله تعالى ما يكفه مانعا عن المعصية ، وأما الذين سرهم مشغول بربهم فلا يجزنون بالعذاب ، فلما ذكر تعالى : { إذا وقعت الواقعة } وكان فيه من التخويف مالا يخفى وكان التخويف بالذين يرغبون ويرهبون بالثواب والعقاب أولى ذكر ما ذكره لقطع العذر لا نفع الخبر ، وأما السابقون فهم غير محتاجين إلى ترغيب أو ترهيب فقدم سبحانه أصحاب اليمين الذين يسمعون ويرغبون ثم ذكر السابقين ليجتهد أصحاب اليمين ويقربوا من درجتهم وإن كان لا ينالها أحد إلا بجذب من الله فإن السابق يناله ما يناله بجذب ، وإليه الإشارة بقوله : جذبة من جذبات الرحمن خير من عبادة سبعين سنة .

المسألة الخامسة : ما معنى قوله : { ما أصحاب الميمنة } ؟ نقول : هو ضرب من البلاغة وتقريره هو أن يشرع المتكلم في بيان أمر ثم يسكت عن الكلام ويشير إلى أن السامع لا يقدر على سماعه كما يقول القائل لغيره : أخبرك بما جرى علي ثم يقول هناك هو مجيبا لنفسه لا أخاف أن يحزنك وكما يقول القائل : من يعرف فلانا فيكون أبلغ من أن يصفه ، لأن السامع إذا سمع وصفه يقول : هذا نهاية ما هو عليه ، فإذا قال : من يعرف فلانا بفرض السامع من نفسه شيئا ، ثم يقول : فلان عند هذا المخبر أعظم مما فرضته وأنبه مما علمت منه .

المسألة السادسة : ما إعرابه ومنه يعرف معناه ؟ نقول : { فأصحاب الميمنة } مبتدأ أراد المتكلم أن يذكر خبره فرجع عن ذكره وتركه وقوله : { ما أصحاب الميمنة } جملة استفهامية على معنى التعجب كما تقول : لمدعي العلم ما معنى كذا مستفهما ممتحنا زاعما أنه لا يعرف الجواب حتى إنك تحب وتشتهي ألا يجيب عن سؤالك ولو أجاب لكرهته لأن كلامك مفهوم كأنك تقول : إنك لا تعرف الجواب ، إذا عرفت هذا فكأن المتكلم في أول الأمر مخبرا ثم لم يخبر بشيء لأن في الأخبار تطويلا ثم لم يسكت وقال ذلك ممتحنا زاعما أنك لا تعرف كنهه ، وذلك لأن من يشرع في كلام ويذكر المبتدأ ثم يسكت عن الخبر قد يكون ذلك السكوت لحصول علمه بأن المخاطب قد علم الخبر من غير ذكر الخبر ، كما أن قائلا : إذا أراد أن يخبر غيره بأن زيدا وصل ، وقال : إن زيدا ثم قبل قوله : جاء وقع بصره على زيد ورآه جالسا عنده يسكت ولا يقول جاء لخروج الكلام عن الفائدة وقد يسكت عن ذكر الخبر من أول الأمر لعلمه بأن المبتدأ وحده يكفي لمن قال : من جاء فإنه إن قال : زيد يكون جوابا وكثيرا ما نقول : زيد ولا نقول : جاء ، وقد يكون السكوت عن الخبر إشارة إلى طول القصة كقول القائل : الغضبان من زيد ويسكت ثم يقول : ماذا أقول عنه . إذا علم هذا فنقول لما قال : { فأصحاب الميمنة } كان كأنه يريد أن يأتي بالخبر فسكت عنه ثم قال في نفسه : إن السكوت قد يوهم أنه لظهور حال الخبر كما يسكت على زيد في جواب من جاء فقال : { ما أصحاب الميمنة } ممتحنا زاعما أنه لا يفهم ليكون ذلك دليلا على أن سكوته على المبتدأ لم يكن لظهور الأمر بل لخفائه وغرابته ، وهذا وجه بليغ ، وفيه وجه ظاهر وهو أن يقال : معناه أنه جملة واحدة استفهامية كأنه قال : وأصحاب الميمنة ما هم على سبيل الاستفهام غير أنه أقام المظهر مقام المضمر وقال : { أصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة } والإتيان بالمظهر إشارة إلى تعظيم أمرهم حيث ذكرهم ظاهرا مرتين وكذلك القول في قوله تعالى : { وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة } وكذلك في قوله : { الحاقة ما الحاقة } وفي قوله : { القارعة ما القارعة } .