قوله تعالى : { فبأي آلاء ربكما تكذبان تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام } قرأ أهل الشام { ذو الجلال } بالواو وكذلك هو في مصاحفهم إجراءً على الاسم .
أخبرنا أبو الحسن علي بن يوسف الجويني ، أنبأنا أبو محمد محمد بن علي بن محمد بن شريك الشافعي ، أنبأنا عبد الله بن محمد بن مسلم ، حدثنا أبو بكر الجوزي ، أنبأنا أحمد بن حرب ، أنبأنا أبو معاوية الضرير عن عاصم الأحول عن عبد الله بن الحارث عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم من الصلاة لم يعقد إلا مقدار ما يقول : " اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام " .
وقرأ جمهور الناس : «ذي الجلال » على اتباع الرب . وقرأ ابن عامر وأهل الشام . «ذو » على اتباع الاسم ، وكذلك في الأول{[10868]} ، وفي حرف أبيّ وابن مسعود ، «ذي الجلال » في الموضعين ، وهذا الموضع مما أريد فيه بالاسم مسماه{[10869]} .
والدعاء بهاتين الكلمتين حسن مرجو الإجابة ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام »{[10870]} .
نجز تفسير سورة الرحمن : وصلى الله على مولانا محمد سيد ولد عدنان .
إيذان بانتهاء الكلام وفذلكة لما بنيت عليه السورة من التذكير بعظمة الله تعالى ونعمائه في الدنيا والآخرة .
والكلام : إنشاء ثناء على الله تعالى مبالغ فيه بصيغة التفعل التي إذا كان فعلها غير صادر من اثنين فالمقصود منها المبالغة .
والمعنى : وصفه تعالى بكمال البركة ، والبركة : الخير العظيم والنفع ، وقد تطلق البركة على علو الشأن ، وقد تقدم ذلك في أول سورة الفرقان .
والاسم ما دل على ذات سواء كان علَماً مثل لفظ « الله » أو كان صفة مثل الصفات العُلى وهي الأسماء الحسنى ، فأيّ اسم قدرت من أسماء الله فهو دال على ذات الله تعالى .
وأسند { تبارك } إلى { اسم } وهو ما يُعرف به المسمى دون أن يقول : تبارك ربك ، كما قال : { تبارك الذي نزل الفرقان } [ الفرقان : 1 ] وكما قال : { فتبارك الله أحسن الخالقين } [ المؤمنون : 14 ] لقصد المبالغة في وصفه تعالى بصفة البركة على طريقة الكناية لأنها أبلغ من التصريح كما هو مقرر في علم المعاني ، وأطبق عليه البلغاء لأنه إذا كان اسمه قد تبارك فإن ذاته تباركت لا محالة لأن الاسم دال على المسمى ، وهذا على طريقة قوله تعالى : { سبح اسم ربك الأعلى } [ الأعلى : 1 ] فإنه إذا كان التنزيه متعلقاً باسمه فتعلق التنزيه بذاته أَولى ومنه قوله تعالى : { وثيابك فطهر } [ المدثر : 4 ] على التأويل الشَّامل ، وقول عنترة :
فشككت بالرمح الأصمّ ثيابه *** ليسَ الكريم على القنا بمحرم
وأما قوله : { فسبح باسم ربك العظيم } [ الواقعة : 96 ] فهو يحتمل أن يكون من قبيل { فسبح بحمد ربك } [ النصر : 3 ] على أن المراد أن يقول كلاماً فيه تنزيه الله فيكون من قبيل قوله : { بسم الله الرحمن الرحيم } [ الفاتحة : 1 ] ويحتمل زيادة الباء فيكون مساوياً لقوله : { سبح اسم ربك الأعلى } [ الأعلى : 1 ] .
وهذه الكناية من دقائق الكلام كقولهم : لا يتعلق الشك بأطرافه وقول . . . :
يبيت بنجاةٍ من اللؤم بيتُها *** إذا ما بيوت بالملامة حُلّت
ونظير هذا في التنزيه أن القرآن يَقْرأ ألفاظه من ليس بمتوضىء ولا يمسك المصحف إلا المتوضىءُ عند جمهور الفقهاء .
فذكر { اسم } في قوله : { تبارك اسم ربك } مراعىً فيه أن ما عُدّد من شؤون الله تعالى ونعمه وإفضاله لا تحيط به العبارة ، فعبّر عنه بهذه المبالغة إذ هي أقصى ما تسمح به اللغة في التعبير ، ليعلم الناس أنهم محقوقون لله تعالى بشكرٍ يوازي عظم نعمه عليهم .
وفي استحضار الجلالة بعنوان ( رب ) مضافاً إلى ضمير المخاطب وهو النبي صلى الله عليه وسلم إشارة إلى ما في معنى الرب من السيادة المشوبة بالرأفة والتنمية ، وإلى ما في الإضافة من التنويه بشأن المضاف إليه وإلى كون النبي صلى الله عليه وسلم هو الواسطة في حصول تلك الخيرات للذين خافوا مقام ربهم بما بلغهم النبي صلى الله عليه وسلم من الهدى .
وقرأ الجمهور { ذي الجلال } بالياء مجروراً صفة ل { ربك } وهو كذلك مرسوم في غير المصحف الشامي .
وقرأه ابن عامر { ذو الجلال } صفة ل { اسم } كما في قوله : { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } [ الرحمن : 27 ] . وكذلك هو مرسوم في غير مصحف أهل الشام . والمعنى واحد على الاعتبارين .
ولكن إجماع القراء على رفع { ذو الجلال } الواقع موقع { ويبقى وجه ربك } واختلاف الرواية في جرّ { ذي الجلال } هنا يشعر بأن لفظ { وجه } أقوى دلالة على الذات من لفظ { اسم } لما علمت من جواز أن يكون المعنى جريان البركة على التلفظ بأسماء الله بخلاف قوله : { ويبقى وجه ربك } فذلك من حكمة إنزال القرآن على سبعة أحرف .
والجلال : العظمة ، وهو جامع لصفات الكمال اللائقة به تعالى .
والإكرام : إسداء النعمة والخير ، فهو إذن حقيق بالثناء والشكر .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{تبارك اسم ربك ذي الجلال} يعني بالجلال العظيم {والإكرام} يعني الكريم، فلا أكرم منه، يمدح الرب نفسه تبارك وتعالى...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"تَبارَك اسْمُ رَبّكَ" يقول تعالى ذكره: تبارك ذكر ربك يا محمد "ذي الجَلالِ" يعني ذي العظمة "والإكْرَامِ" يعني: ومن له الإكرام من جميع خلقه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام} قال أبو بكر الأصم: تبارك اسم ربك من أن يستحق غيره اسمه. وقوله: {ذي الجلال} استحق على الخلق أن يجلّوه، ويعظموه من أن يسموا غيره باسمه {والإكرام} هو ألا يلحقوا به ما لا يليق به من الولد والشريك وغيره...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} فيه وجهان:
أحدهما: معناه ثبت اسم ربك ودام.
الثاني: أن ذكر اسمه يمن وبركة، ترغيباً في مداومة ذكره.
{تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام}...
أصل التبارك من البركة وهي الدوام والثبات، ومنها بروك البعير وبركة الماء، فإن الماء يكون فيها دائما وفيه وجوه؛
(وثانيها): دام الخير عنده لأن البركة وإن كانت من الثبات لكنها تستعمل في الخير. (وثالثها): تبارك بمعنى علا وارتفع شأنا لا مكانا.
المسألة الثالثة: قال بعد ذكر نعم الدنيا: {ويبقى وجه ربك} وقال بعد ذكر نعم الآخرة: {تبارك اسم ربك} لأن الإشارة بعد عد نعم الدنيا وقعت إلى عدم كل شيء من الممكنات وفنائها في ذواتها، واسم الله تعالى ينفع الذاكرين ولا ذاكر هناك يوحد الله غاية التوحيد فقال: ويبقى وجه الله تعالى والإشارة هنا، وقعت إلى أن بقاء أهل الجنة بإبقاء الله ذاكرين اسم الله متلذذين به فقال: {تبارك اسم ربك} أي في ذلك اليوم لا يبقى اسم أحد إلا اسم الله تعالى به تدور الألسن ولا يكون لأحد عند أحد حاجة بذكره ولا من أحد خوف، فإن تذاكروا تذاكروا باسم الله. المسألة الرابعة: الاسم مقحم أو هو أصل مذكور له التبارك، نقول: فيه وجهان؛
(أحدهما): وهو المشهور أنه مقحم كالوجه في قوله تعالى: {ويبقى وجه ربك} يدل عليه قوله: {فتبارك الله أحسن الخالقين} و {تبارك الذي بيده الملك} وغيره من صور استعمال لفظ تبارك.
(وثانيهما): هو أن الاسم تبارك، وفيه إشارة إلى معنى بليغ، أما إذا قلنا: تبارك بمعنى علا فمن علا اسمه كيف يكون مسماه وذلك لأن الملك إذا عظم شأنه لا يذكر اسمه إلا بنوع تعظيم ثم إذا انتهى الذاكر إليه يكون تعظيمه له أكثر، فإن غاية التعظيم للاسم أن السامع إذا سمعه قام كما جرت عادة الملوك أنهم إذا سمعوا في الرسائل اسم سلطان عظيم يقومون عند سماع اسمه، ثم إن أتاهم السلطان بنفسه بدلا عن كتابه الذي فيه اسمه يستقبلونه ويضعون الجباه على الأرض بين يديه، وهذا من الدلائل الظاهرة على أن علو الاسم يدل على علو زائد في المسمى، أما إن قلنا: بمعنى دام الخير عنده فهو إشارة إلى أن ذكر اسم الله تعالى يزيل الشر ويهرب الشيطان ويزيد الخير ويقرب السعادات، وأما إن قلنا: بمعنى دام اسم الله، فهو إشارة إلى دوام الذاكرين في الجنة على ما قلنا من قبل. المسألة الخامسة: القراءة المشهورة هاهنا: {ذي الجلال}...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{تبارك}...تفاعل من البركة، ولا يكاد يذكره جل ذكره إلا عند أمر معجب...ومعناه ثبت ثباتاً لا يسع العقول جمع وصفه لكونه على صيغه المفاعلة المفيدة لبذل الجهد إذا كانت ممن تمكن منازعته، وذلك مع اليمن والبركة والإحسان. {اسم ربك} أي المحسن إليك بإنزال هذا القرآن الذي جبلك على متابعته فصرت مظهراً له وصار خلقاً لك فصار إحسانه إليك فوق الوصف،... {ذي الجلال} أي العظمة الباهرة فهو المنتقم من الأعداء {والإكرام} أي الإحسان الذي لا يمكن الإحاطة به فهو المتصف بالجمال الأقدس المقتضي لفيض الرحمة على جميع الأولياء...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
وزعم بعضهم إن الأنسب بما قصد من هذه السورة الكريمة وهو تعدد الآلاء والنعم تفسير {تبارك} بكثرت خيراته ثم إنه لا بعد في إسناده بهذا المعنى لاسمه تعالى إذ به يستمطر فيغاث ويستنصر فيعان.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
إيذان بانتهاء الكلام وفذلكة لما بنيت عليه السورة من التذكير بعظمة الله تعالى ونعمائه في الدنيا والآخرة. والكلام: إنشاء ثناء على الله تعالى مبالغ فيه بصيغة التفاعل التي إذا كان فعلها غير صادر من اثنين فالمقصود منها المبالغة. والمعنى: وصفه تعالى بكمال البركة، والبركة: الخير العظيم والنفع، وقد تطلق البركة على علو الشأن...
وأسند {تبارك} إلى {اسم} وهو ما يُعرف به المسمى دون أن يقول: تبارك ربك، كما قال: {تبارك الذي نزل الفرقان} [الفرقان: 1] وكما قال: {فتبارك الله أحسن الخالقين} [المؤمنون: 14] لقصد المبالغة في وصفه تعالى بصفة البركة على طريقة الكناية لأنها أبلغ من التصريح كما هو مقرر في علم المعاني، وأطبق عليه البلغاء لأنه إذا كان اسمه قد تبارك فإن ذاته تباركت لا محالة لأن الاسم دال على المسمى، وهذا على طريقة قوله تعالى: {سبح اسم ربك الأعلى} [الأعلى: 1] فإنه إذا كان التنزيه متعلقاً باسمه فتعلق التنزيه بذاته أَولى ومنه قوله تعالى: {وثيابك فطهر} [المدثر: 4] على التأويل الشَّامل.فذكر {اسم} في قوله: {تبارك اسم ربك} مراعىً فيه أن ما عُدّد من شؤون الله تعالى ونعمه وإفضاله لا تحيط به العبارة، فعبّر عنه بهذه المبالغة إذ هي أقصى ما تسمح به اللغة في التعبير، ليعلم الناس أنهم محقوقون لله تعالى بشكرٍ يوازي عظم نعمه عليهم.وفي استحضار الجلالة بعنوان (رب) مضافاً إلى ضمير المخاطب وهو النبي صلى الله عليه وسلم إشارة إلى ما في معنى الرب من السيادة المشوبة بالرأفة والتنمية، وإلى ما في الإضافة من التنويه بشأن المضاف إليه وإلى كون النبي صلى الله عليه وسلم هو الواسطة في حصول تلك الخيرات للذين خافوا مقام ربهم بما بلغهم النبي صلى الله عليه وسلم من الهدى. والجلال: العظمة، وهو جامع لصفات الكمال اللائقة به تعالى.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
يختم السورة سبحانه بهذه الآية الكريمة: (تبارك اسم ربّك ذي الجلال والإكرام). «تبارك» من أصل (برك) على وزن (درك) بمعنى صدر البعير، وذلك لأنّ الجمال حينما تبرك تضع صدرها على الأرض أوّلا، ومن هنا استعمل هذا المصطلح بمعنى الثبات والدوام والاستقامة، لذا فإنّ كلمة (مبارك) تقال للموجودات الكثيرة الفائدة، وأكرم من تطلق عليه هذه الكلمة هي الذات الإلهيّة المقدّسة باعتبارها مصدراً لجميع الخيرات والبركات. واستعملت هذه المفردة هنا لأنّ جميع النعم الإلهيّة سواء كانت في الأرض والسماء في الدنيا والآخرة والكون والخلق فهي من فيض الوجود الإلهي المبارك، لذا فإنّ هذا التعبير من أنسب التعابير المذكورة في الآية لهذا المعنى. والمقصود من (اسم) هنا هو صفات الله تعالى خصوصاً الرحمانية التي هي منشأ البركات، وبتعبير آخر فإنّ أفعال الله تعالى مصدرها من صفاته، وإذا خلق عالم الوجود فذلك من إبداعه ونظام خلقه، وإذا وضع كلّ شيء في ميزان فذلك ما أوجبته حكمته، وإذا وضع قانون العدالة حاكماً على كلّ شيء فإنّ علمه وعدالته توجبان ذلك. وإذا عاقب المجرمين بأنواع العذاب الذي مرّ بنا في هذه السورة فإنّ انتقامه يقضي ذلك، وإذا شمل المؤمنين الصالحين بأنواع الهبات والنعم العظيمة الماديّة والمعنوية في هذا العالم وفي الآخرة فإنّ رحمته الواسعة أوجبت ذلك، وبناءً على هذا فإنّ اسمه يشير إلى صفاته، وصفاته هي نفس ذاته المقدّسة. والتعبير ب (ذي الجلال والإكرام) إشارة إلى كلّ صفات جماله وجلاله.