وتنتقل السورة للإِشارة إلى ما أضمره إبراهيم - عليه السلام - لتلك الآلهة الباطلة فتقول : { فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النجوم . فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ . فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ } .
قالوا : كان قوم إبراهيم يعظمون الكواكب ، ويعتقدون تأثيرها فى العالم . . وتصادف أن حل أوان عيد لهم . فدعوه إلى الخروج معهم كما هى عادتهم فى ذلك العبد .
فتطلع إلى السماء ، وقلب نظره فى نجومها ، ثم قال لهم معتذرا عن الخروج معهم - ليخلوا بالأصنام فيحطمها - : { إِنِّي سَقِيمٌ } أى مريض مرضا بمنعنى من مصاحبتكم . { فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ } أى : فتركوه وحده وانصرفوا إلى خارج بلدتهم .
قال الإِمام ابن كثير ما ملخصه : وإنما قال إبراهيم لقومه ذلك ليقيم فى البلد إذا ذهبوا إلى عيدهم ، فإنه كان قد أزف خروجهم إلى عيد لهم ، فأحب أن يختلى بآلهتهم ليكسرها ، فقال لهم كلاما هو حق فى نفس الأمر فهموا منه أنه سقيم على ما يعتقدونه ، فتولوا عنه مدبرين .
قال قتادة : والعرب تقول لمن تفكر فى أمر : نظر فى النجوم ، يعنى قيادة : أنه نظر فى السماء متفكرا فيما يلهيهم به فقال : { إِنِّي سَقِيمٌ } أى : ضعيف .
وقول النبى صلى الله عليه وسلم " لم يكذب إبراهيم غير ثلاث كذبات : اثنتين فى ذات الله ، قوله { إِنِّي سَقِيمٌ } وقوله : { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا } وقوله فى سارة " هى أختى " " .
ليس المراد بالكذب هنا الكذب الحقيقى الذى يذم فاعله ، حاشا وكلا ، وِإنما أطلق الكذب على هذا تجوزاً ، وإنما هو من المعارض فى الكلام لمقصد شرعى دينى ، كما جاء فى الحديث : " إن من المعاريض لمندوحة عن الكذب " .
وقيل قوله : { إِنِّي سَقِيمٌ } أى ، مريض القلب من عبادتكم للأوثان من دون الله - تعالى - . .
ويبدو لنا أى نظر إبراهيم - عليه السلام - فى النجوم ، إنما هو نظر المؤمن المتأمل فى ملكوت الله - تعالى - المستدل بذلك على وحدانية الله وقدرته ، وأنه إنما فعل ذلك أمامهم - وهم قوم يعظمون النجوم - ليقنعهم بصدق اعتذاره عن الخروج معهم ، ويتم له ما يريده من تحطيم الأصنام .
كما يبدو لنا أن قوله : { إِنِّي سَقِيمٌ } المقصود منه : إنى سقيم القلب بسبب ما أنتم فيه من كفر وضلال ، فإن العاقل يقلقه ويزعجه ويسقمه ما أنتم فيه من عكوف على عبادة الأصنام .
وقال لهم ذلك ليتركوه وشأنه ، حتى ينفذ ما أقسم عليه بالنسبة لتلك الأصنام .
فكلام إبراهيم حق فى نفس الأمر - كما قال الإِمام ابن كثير - وقد ترك لقومه أن يفهموه على حسب ما يعتقدون .
واختلف أيضاً في قوله { إني سقيم } ، فقالت فرقة هي كذبة في ذات الله تعالى أخبرهم عن نفسه أنه مريض وأن الكوكب أعطاه ذلك ، وقال ابن عباس وغيره : أشار لهم إلى مرض وسقم يعدي كالطاعون ولذلك تولوا { مدبرين } أي فارين منه ، وقال بعضهم بل تولوا { مدبرين } لكفرهم واحتقارهم لأمره .
قال القاضي أبو محمد : وعلى هذا التأويل في أنها كذبة يجيء الحديث لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات : قوله { إني سقيم } ، وقوله { بل فعله كبيرهم }{[9873]} [ الأنبياء : 63 ] وقوله في سارة هي أختي{[9874]} .
وقالت فرقة : ليست بكذبة ولا يجوز الكذب عليه ولكنها من المعاريض أخبرهم بأنه سقيم في المثال وعلى عرف ابن آدم لا بد أن يسقم ضرورة ، وقيل أراد على هذا { إني سقيم } النفس أي من أموركم وكفركم فظهر لهم من كلامه أنه أراد سقماً بالجسد حاضراً وهكذا هي المعاريض .
قال القاضي أبو محمد : وهذا التأويل لا يرده الحديث وذكر الكذبات لأنه قد يقال لها كذب على الاتساع بحسب اعتقاد المخبر ، والكذب الذي هو قصد قول الباطل ، والإخبار بضد ما في النفس بغير منفعة شرعية ، هو الذي لا يجوز على الأنبياء صلوات الله عليهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ذاهبين وقد وضعوا الطعام والشراب بين يدي آلهتهم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"فَتَوَلّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ" يقول: فتولوا عن إبراهيم مدبرين عنه، خوفا من أن يعدِيَهُم السقم الذي ذكر أنه به.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أعرضوا عنه ذاهبين إلى حاجاتهم وحيث يريدون أن يذهبوا.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{فتولوا} أي عالجوا أنفسهم وكلفوها أن انصرفوا {عنه} إلى محل اجتماعهم وإقامة عيدهم وأكد المعنى ونص عليه بقوله: {مدبرين} أي إلى معبدهم فخلا له الوقت من رقيب.