قوله تعالى : { فتول عنهم } فأعرض عنهم ، { فما أنت بملوم } لا لوم عليك فقد أديت الرسالة وما قصرت فيما أمرت به . قال المفسرون : لما نزلت هذه الآية حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتد ذلك على أصحابه ، وظنوا أو الوحي قد انقطع ، وأن العذاب قد حضر إذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتولى عنهم ، فأنزل الله تعالى : { وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين }
{ 54-55 } { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ * وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ }
يقول تعالى آمرًا رسوله بالإعراض عن المعرضين المكذبين : { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ } أي : لا تبال بهم ولا تؤاخذهم ، وأقبل على شأنك .
فليس عليك لوم في ذنبهم ، وإنما عليك البلاغ ، وقد أديت ما حملت ، وبلغت ما أرسلت به .
تفريع على قوله : { كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول } إلى قوله : { بل هم قوم طاغون } [ الذاريات : 52 ، 53 ] لمشعر بأنهم بُعَدَاء عن أن تقنعهم الآياتُ والنذر فتوَلَّ عنهم ، أي أعرض عن الإِلحاح في جدالهم ، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على إيمانهم ويغتمّ من أجل عنادهم في كفرهم فكان الله يعاود تسليته الفيْنة بعد الفَيْنَة كما قال : { لعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين } [ الشعراء : 3 ] { فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً } [ الكهف : 6 ] { ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون } [ النحل : 127 ] ، فالتولي مراد به هذا المعنى ، وإلا فإن القرآن جاء بعد أمثال هذه الآية بدعوتهم وجِدالهم غير مرة قال تعالى : { فتول عنهم حتى حين وأبصرهم فسوف يبصرون } في سورة الصافات ( 174 175 ) .
وفرع على أمره بالتولي عنهم إخباره بأنه لا لوم عليه في إعراضهم عنه وصيغ الكلام في صيغة الجملة الاسمية دون : لا نلومك ، للدلالة على ثبات مضمون الجملة في النفي .
وجيء بضمير المخاطب مسنداً إليه فقال : فما أنت بملوم } دون أن يقول : فلا ملام عليك ، أو نحوه للاهتمام بالتنويه بشأن المخاطب وتعظيمه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فتول عنهم} يعني فأعرض عنهم، فقد بلغت وأعذرت، {فما أنت} يا محمد {بملوم} يقول: فلا تلام...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فتولّ يا محمد عن هؤلاء المشركين بالله من قريش، يقول: فأعرض عنهم حتى يأتيك فيهم أمر الله، يقال: ولى فلان عن فلان: إذا أعرض عنه وتركه...
وقوله:"فَمَا أنْتَ بِمَلُومٍ "يقول جلّ ثناؤه: فما أنت يا محمد بملوم، لا يلومك ربك على تفريط كان منك في الإنذار، فقد أنذرت، وبلّغت ما أرسلت به...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فتولّ عنهم فما أنت بملُوم} يخرج على وجهين:
أحدهما: {فتولّ عنهم} فأعرض، ولا تكافئهم بإساءتهم إليك بقولهم: إنه ساحر وإنه مجنون، فإن الله تعالى سيكفيهم عنك، ويجازيهم مجازاة إساءتهم.
والثاني: يأمره بالإعراض والتولّي عنهم عن قوم، علم الله تعالى أنهم لا يؤمنون؛ يُؤيِسه عن إيمانهم، ويقول: لا تشتغل بهم، فإنهم لا يؤمنون لك، ولا يصدّقونك، ولكن اشتغل بمن ترجو منه الإيمان، والله أعلم...
وقوله تعالى: {فما أنت بملوم} جائز أن يكون المراد من نفي الشيء إثبات مقابل ذلك الشيء وضدّه كقوله: {فما ربحت تجارتهم} [البقرة: 16] نفى عن تجارتهم الربح، والمراد إثبات الخسران، كأنه قال: {فما ربحت تجارتهم} بل خسِرت. فعلى ذلك جائز قوله: {فما أنت بملوم} بل بمحمود، والله أعلم. وقال أبو بكر الأصمّ: {فما أنت بملوم} لأنه قد بلّغ الرسالة وما أُمر بتبليغه إلى الخلق، وقال بأمره، ونصح خلقه، وخفض جناحه لهم، فكيف تُلام؟ أي ما أنت بالذي تُلام على صنيعك وعلى فعلك، وإن كان بعض الناس يلومك، وهم الكفار. وفيه دلالة الحفظ والعِصمة له عن الزَّيغ والزّلاّت، إذ لو كان بالذي يحتمل الزّيغ والزّلّة لكان يحتمل الملامة، فدلّ أنه لا يحتمل الزّيغ والعدول عن الحق...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وليس المراد أعرض عن تذكيرهم ووعظهم، وإنما أراد أعرض عن مكافأتهم ومقابلتهم ومباراتهم وما أنت في ذلك بملوم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{فتول عنهم} أي عن الحرص المفرط عليهم، وذهاب النفس حسرات، ويحتمل أن يراد: فقول عن التعب المفرط في دعائهم وضمهم إلى الإسلام فلست بمصيطر عليهم ولست {بملوم} إذ قد بلغت، فنح نفسك عن الحزن عليهم، وذكر فقط، فإن الذكرى نافعة للمؤمنين ولمن قضي له أن يكون منهم في ثاني حال، وعلى هذا التأويل: فلا نسخ في الآية.
{فتول عنهم فما أنت بملوم} هذه تسلية أخرى، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان من كرم الأخلاق ينسب نفسه إلى تقصير، ويقول إن عدم إيمانهم لتقصيري في التبليغ فيجتهد في الإنذار والتبليغ، فقال تعالى: قد أتيت بما عليك، ولا يضرك التولي عنهم، وكفرهم ليس لتقصير منك، فلا تحزن فإنك لست بملوم بسبب التقصير، وإنما هم الملومون بالإعراض والعناد...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
{فتول عنهم} أي أعرض عن مقابلتهم بالأسوأ، كقوله تعالى: {ودع أذاهم} وقوله: {واهجرهم هجرا جميلا}. {فما أنت بملوم} أي في إعراضهم، إذ لست عليهم بجبار ولا مسيطر، وما عليك من حسابهم من شيء. تنبيه: قول بعض المفسرين هنا – {فتول عنهم} أي فأعرض عن مجادلتهم، بعدما كررت عليهم الدعوة – بعيد عن المعنى بمراحل، لأن مجادلتهم مما كان مأمورا بها على المدى، لأنها العامل الأكبر لإظهار الحق، كما قال تعالى: {وجاهدهم به جهادا كبيرا}. وكذا قول البعض في قوله تعالى: {فما أنت بملوم} أي في إعراضك بعدما بلغت. فإنه مناف للأمر بالذكرى بعد. فالصواب ما ذكرناه في تفسير الآية، لأنه المحاكي لنظائرها. وأقعد التفاسير ما كان بالأشباه والنظائر – كما قيل-: وخير ما فسرته بالوارد...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أي أعرض عن الإِلحاح في جدالهم، فالتولي مراد به هذا المعنى، وإلا فإن القرآن جاء بعد أمثال هذه الآية بدعوتهم وجِدالهم غير مرة، قال تعالى: {فتول عنهم حتى حين وأبصرهم فسوف يبصرون} في سورة الصافات (174 -175).