تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{فَتَوَلَّ عَنۡهُمۡ فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٖ} (54)

الآية 54 وقوله تعالى : { فتولّ عنهم فما أنت بملُومٍ } قال بعض أهل التأويل : لما نزل هذا خاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عنهم أن ينزل بهم العذاب حتى نزل قوله تعالى : { وذكّر إن الذكرى تنفع المؤمنين } .

لكن عندنا يخرّج قوله تعالى : { فتولّ عنهم فما أنت بملُوم } على وجهين :

أحدهما : { فتولّ عنهم } فأعرض ، ولا تكافئهم بإساءتهم إليك بقولهم : إنه ساحر وإنه مجنون ، فإن الله تعالى سيُكفيهم عنك ، ويجازيهم مجازاة إساءتهم .

والثاني : يأمره بالإعراض والتولّي عنهم عن قوم ، علم الله تعالى أنهم لا يؤمنون ؛ يُؤيِسه عن إيمانهم ، ويقول{[19942]} : لا تشتغل بهم ، فإنهم لا يؤمنون لك ، ولا يصدّقونك ، ولكن اشتغل بمن ترجو منه الإيمان ، والله أعلم .

وجائز أن يكون لا على حقيقة الأمر ، ولكن على التخيير ، أي لك أن تتولّى عنهم ، وتُعرض ، فإنك قد بلغت ، وأعذرت في التبليغ والدعاء غايته ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { فما أنت بملوم } جائز أن يكون المراد من نفي الشيء إثبات مقابل ذلك الشيء وضدّه كقوله : { فما ربحت تجارتهم } [ البقرة : 16 ] [ نفى عن تجارتهم ]{[19943]} الربح ، والمراد إثبات الخسران ، كأنه قال : { فما ربحت تجارتهم } بل خسِرت . فعلى ذلك جائز قوله : { فما أنت بملوم } بل بمحمود ، والله أعلم .

وقال أبو بكر الأصمّ : { فما أنت بملوم } لأنه قد بلّغ الرسالة وما أُمر بتبليغه إلى الخلق ، وقال بأمره ، ونصح خلقه ، وخفض جناحه لهم ، فكيف تُلام ؟ أي ما أنت بالذي تُلام على صنيعك وعلى فعلك ، وإن كان بعض الناس يلومك ، وهم الكفار .

وفيه دلالة الحفظ والعِصمة له عن الزَّيغ والزّلاّت ، إذ لو كان بالذي يحتمل الزّيغ والزّلّة لكان يحتمل الملامة ، فدلّ أنه لا يحتمل الزّيغ والعدول عن الحق .


[19942]:من م، في الأصل: ويقولون.
[19943]:من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل وم.