وقوله - سبحانه - { أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا . والجبال أَرْسَاهَا } بدل اشتمال من قوله { دحاها } ، أو بيان وتفسير لدحوها ، والمرعى : مصدر ميمى أطلق على المفعول ، كالخلق بمعنى المخلوق ، أى أخرج منها ما يُرْعَى .
أى : والأرض جعلها مستقرا لكم ، ومكانا لانتفاعكم ، بأن أخرج منها ماءها ، عن طريق تفجير العيون والآبار والبحار ، وأخرج منها { مرعاها } أى : جميع ما يقتات به الناس والدواب ، بدليل قوله - تعالى - بعد ذلك : { مَتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ } .
وكذلك من مظاهر قدرته - تعالى- ورحمته بكم ، أنه أثبت الجبال فى الأرض حتى لا تميد أو تضطرب ، فالمقصود بإرسال الجبال : تثبيتها فى الأرض .
وقوله - تعالى - : { مَتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ } بيان لوجه المنة فى خلق الأرض على هذه الطريقة البديعة .
والمتاع : اسم لما يتمتع به الإِنسان من منافع الحياة الدنيا لمدة محدودة من الزمان ، وانتصب لفظ " متاعا " هنا بفعل مقدر من لفظه ، أى : متعناكم متاعا .
والمعنى : دحونا الأرض ، وأخرجنا منها ماءها ومرعاها . . لتكون موضع منفعة لكم ، تتمتعون بخيراتها أنتم وأنعامكم ، إلى وقت معين من الزمان ، تتركونها النتهاء أعماركم .
والقرآن يعلن أن هذا كله كان : ( متاعا لكم ولأنعامكم ) . . فيذكر الناس بعظيم تدبير الله لهم من ناحية . كما يشير إلى عظمة تقدير الله في ملكه . فإن بناء السماء على هذا النحو ، ودحو الأرض على هذا النحو أيضا لم يكونا فلتة ولا مصادفة . إنما كان محسوبا فيهما حساب هذا الخلق الذي سيستخلف في الأرض . والذي يقتضي وجوده ونموه ورقيه موافقات كثيرة جدا في تصميم الكون . وفي تصميم المجموعة الشمسية بصفة خاصة . وفي تصميم الأرض بصفة أخص .
وقوله { مَتَاعًا لَكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ } أي : دحا الأرض فأنبع عيونها ، وأظهر مكنونها ، وأجرى أنهارها ، وأنبت زروعها وأشجارها وثمارها ، وثبت جبالها ، لتستقر بأهلها ويقر قرارها ، كل ذلك متاعا لخلقه ولما يحتاجون إليه من الأنعام التي يأكلونها ويركبونها مدة احتياجهم إليها في هذه الدار إلى أن ينتهي الأمد ، وينقضي الأجل .
( المتاع ) يطلق على ما ينتفع به مدة ، ففيه معنى التأجيل ، وتقدم عند قوله { وأمتعتكم } في سورة النساء ( 102 ) ، وهو هنا اسم مصدر متَّع ، أي إعطاء للانتفاع زماناً ، وتقدم بيانه عند قوله تعالى : { ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين } في سورة الأعراف ( 24 ) .
وانتصب { متاعاً } على النيابة عن الفعل . والتقدير : متَّعْناكم متاعاً .
ولام { لكم ولأنعامكم } لام التقوية لأن المصدر فرع في العمل عن الفعل ، وهو راجع إلى خلق الأرض والجبال ، وذلك في الأرض ظاهر ، وأما الجبال فلأنها معتصمهم من عدوّهم ، وفيها مراعي أنعامهم تكون في الجبال مأمونة من الغارة عليها على غرة . وهذا إدماج الامتنان في الاستدلال لإِثارة شكرهم حق النعمة بأن يعبدوا المنعِم وحده ولا يشركوا بعبادته غيره .
وفي قوله : { والأرض بعد ذلك دحاها } [ النازعات : 30 ] إلى { ولأنعامكم } محسّن الجمع ثم التقسيم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم رجع إلى مرعاها، فقال فيها: {متاعا لكم ولأنعامكم} يقول: معيشة لكم ولمواشيكم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
إنه خلق هذه الأشياء، وأخرج من الأرض ماءها ومرعاها، منفعة لنا، ومتاعا إلى حين...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
والذي جعله للأنعام لم يجعل لنا فيه شركا؛ وذلك لأن الذي أنشأه لمتاع البشر، منه ما يستخبث، ويستقذر، منه ما يستطاب، ويدّخر، فجعل ما طاب منه للبشر وما حيث منه لمنافع الدواب، والذي أنشأه لمنافع الدواب مما تستخبثه الطباع، وتستقذره، ففضل أغذيتها من فضل منازلهم. ففي ما ذكرنا دلالة إباحة التناول من الطيبات: أن الله تعالى منّ على عباده أن جعل أغذيتهم بما طاب من الأشياء، وفضلهم على الأنعام. فمن كره ذلك، فقد كره الانتفاع بما أنشئ للانتفاع، والله أعلم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{متاعا لَّكُمْ} فعل ذلك تمتيعاً لكم {ولأنعامكم} لأن منفعة ذلك التمهيد وأصله إليهم وإلى أنعامهم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وجميع هذه النعم إذا تدبرت فهي متاع للناس، و «الأنعام» يتمتعون فيها وبها...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
القرآن يعلن أن هذا كله كان: (متاعا لكم ولأنعامكم).. فيذكر الناس بعظيم تدبير الله لهم من ناحية. كما يشير إلى عظمة تقدير الله في ملكه. فإن بناء السماء على هذا النحو، ودحو الأرض على هذا النحو أيضا لم يكونا فلتة ولا مصادفة. إنما كان محسوبا فيهما حساب هذا الخلق الذي سيستخلف في الأرض. والذي يقتضي وجوده ونموه ورقيه موافقات كثيرة جدا في تصميم الكون. وفي تصميم المجموعة الشمسية بصفة خاصة. وفي تصميم الأرض بصفة أخص...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
(المتاع) يطلق على ما ينتفع به مدة، ففيه معنى التأجيل...
وانتصب {متاعاً} على النيابة عن الفعل. والتقدير: متَّعْناكم متاعاً. ولام {لكم ولأنعامكم} لام التقوية لأن المصدر فرع في العمل عن الفعل، وهو راجع إلى خلق الأرض والجبال، وذلك في الأرض ظاهر، وأما الجبال فلأنها معتصمهم من عدوّهم، وفيها مراعي أنعامهم تكون في الجبال مأمونة من الغارة عليها على غرة. وهذا إدماج الامتنان في الاستدلال لإِثارة شكرهم حق النعمة بأن يعبدوا المنعِم وحده ولا يشركوا بعبادته غيره. وفي قوله: {والأرض بعد ذلك دحاها} [النازعات: 30] إلى {ولأنعامكم} محسّن الجمع ثم التقسيم...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وتلخص الآية التالية ما جاء في الآيات السابقة: (متاعاً لكم ولأنعامكم). نعم.. فالسماء رفعها. خلق نظام النور والظلمة. دحى الأرض. أخرج من الأرض ماءً ونباتاً. أرسى الجبال لحفظ الأرض. هيأ مستلزمات عيش الإنسان، وسخر له كلّ شيء. كلّ ذلك، ليغرف الإنسان من نِعم اللّه، ولكي لا يغفل عن طاعة اللّه والوصول لساحة رضوانه جّل شأنه. وما جاء في الآيات يبرز قدرته سبحانه على المعاد من جهة، ويدلل من جهة أخرى على وجود اللّه تعالى وعظمة شأنه، ليدفع المخلوق إلى الإذعان بسلامة سلك طريق معرفة اللّه وتوحيده...