وكل من آثر الحياة الدنيا ، واختارها على الآخرة . فعمل لها وحدها ، غير حاسب للآخرة حسابا . واعتبار الآخرة هو الذي يقيم الموازين في يد الإنسان وضميره . فإذا أهمل حساب الآخرة أو آثر عليها الدنيا اختلت كل الموازين في يده ، واختلت كل القيم في تقديره ، واختلت كل قواعد الشعور والسلوك في حياته ، وعد طاغيا وباغيا ومتجاوزا للمدى .
والإِيثار : تفضيل شيء على شيء في حال لا يتيسر فيها الجمع بين أحوال كل منهما .
ويعدّى فعل الإِيثار إلى اسم المأثور بتعدية الفعل إلى مفعوله ، ويعدّى إلى المأثور عليه بحرف ( على ) قال تعالى حكاية { لقد آثرك الله علينا } [ يوسف : 91 ] ، وقد يترك ذكر المأثور عليه إذا كان ذكر المأثور يشير إليه كما إذا كان المأثور والمأثور عليه ضدين كما هنا لما هو شائع من المقابلة بين الحياة الدنيا والآخرة .
وقد يترك ذكر المأثور اكتفاء بذكر المأثور عليه إذا كان هو الأهم كقوله تعالى : { ويؤثرون على أنفسهم } [ الحشر : 9 ] لظهور أن المراد يؤثرون الفقراء .
والمراد بالحياة الدنيا حظوظها ومنافعها الخاصة بها ، أي التي لا تُشاركُها فيها حظوظُ الآخرة ، فالكلام على حذف مضاف ، تقديره : نعيم الحياة .
ويفهم من فعل الإِيثار أن معه نبْذاً لنعيم الآخرة . ويرجع إيثار الحياة الدنيا إلى إرضاء هوى النفس ، وإنما يعرف كلا الحظين بالتوقيف الإلهي كما عرف الشرك وتكذيب الرسل والاعتداء على الناس والبطر والصلف وما يستتبعه ذلك من الأحوال الذميمة .
وملاك هذا الإِيثار هو الطغيان على أمر الله ، فإن سادتهم ومسيريهم يعلمون أن ما يدعوهم إليه الرسول هو الحق ولكنهم يكرهون متابعته استكباراً عن أن يكونوا تبعاً للغير فتضيعَ سيادتهم .
وقد زاد هذا المفادَ بياناً قوله بعده : { وأما من خاف مقام ربه } الآية .
وبه يظهر أن مناط الذم في إيثار الحياة الدنيا هو إيثارها على الآخرة ، فأما الأخذ بحظوظ الحياة الدنيا التي لا يفيت الأخذُ بها حظوظ الآخرة فذلك غير مذموم ، وهو مقام كثير من عِباد الله الصالحين حكاه الله تعالى عن صالحي بني إسرائيل من قولهم لقارون : { وابْتَعِ فيما آتاك اللَّه الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا } [ القصص : 77 ] .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وآثر متاع الحياة الدنيا على كرامة الآخرة، وما أعدّ الله فيها لأوليائه، فعمل للدنيا، وسعى لها، وترك العمل للآخرة" فإنّ الجَحِيمَ هيَ المأْوَى "يقول: فإن نار الله التي اسمها الجحيم، هي منزلُهُ ومَأْواه، ومصيُره الذي يصير إليه يوم القيامة...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
معناه اختار منافع الحياة الدنيا بارتكاب المعاصي وترك ما وجب عليه، فالإيثار: إرادة الشيء على طريقة التفضيل له على غيره، ومثله الاختيار، لأنه يختاره على أنه خير من غيره، فمن آثر الأدنى على الأولى فهو منقوص بالحاجة، كما أن من آثر القبيح على الحسن كان منقوصا...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وآثر الحياة الدنيا على الآخرة لتكذيبه بالآخرة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وآثر} أي أكرم وقدم واختار {الحياة الدنيا} بأن جعل أثر العاجلة الدنية لحضورها عنده أعظم من أثر الآخرة العليا لغيابها، فكان كالبهائم لا إدراك له لغير الجزئيات الحاضرة، فانهمك في جميع أعمالها وأعرض عن الاستعداد للآخرة بالعبادة وتهذيب النفس فلم ينه نفسه عن الهوى...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وكل من آثر الحياة الدنيا، واختارها على الآخرة. فعمل لها وحدها، غير حاسب للآخرة حسابا...فإذا أهمل حساب الآخرة أو آثر عليها الدنيا اختلت كل الموازين في يده، واختلت كل القيم في تقديره...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والإِيثار: تفضيل شيء على شيء في حال لا يتيسر فيها الجمع بين أحوال كل منهما. ويعدّى فعل الإِيثار إلى اسم المأثور بتعدية الفعل إلى مفعوله، ويعدّى إلى المأثور عليه بحرف (على) قال تعالى حكاية {لقد آثرك الله علينا} [يوسف: 91]، وقد يترك ذكر المأثور عليه إذا كان ذكر المأثور يشير إليه كما إذا كان المأثور والمأثور عليه ضدين كما هنا لما هو شائع من المقابلة بين الحياة الدنيا والآخرة. وقد يترك ذكر المأثور اكتفاء بذكر المأثور عليه إذا كان هو الأهم كقوله تعالى: {ويؤثرون على أنفسهم} [الحشر: 9] لظهور أن المراد يؤثرون الفقراء. والمراد بالحياة الدنيا حظوظها ومنافعها الخاصة بها، أي التي لا تُشاركُها فيها حظوظُ الآخرة، فالكلام على حذف مضاف، تقديره: نعيم الحياة. ويفهم من فعل الإِيثار أن معه نبْذاً لنعيم الآخرة. ويرجع إيثار الحياة الدنيا إلى إرضاء هوى النفس، وإنما يعرف كلا الحظين بالتوقيف الإلهي كما عرف الشرك وتكذيب الرسل والاعتداء على الناس والبطر والصلف وما يستتبعه ذلك من الأحوال الذميمة. وملاك هذا الإِيثار هو الطغيان على أمر الله، فإن سادتهم ومسيريهم يعلمون أن ما يدعوهم إليه الرسول هو الحق ولكنهم يكرهون متابعته استكباراً عن أن يكونوا تبعاً للغير فتضيعَ سيادتهم. وقد زاد هذا المفادَ بياناً قوله بعده: {وأما من خاف مقام ربه} الآية. وبه يظهر أن مناط الذم في إيثار الحياة الدنيا هو إيثارها على الآخرة، فأما الأخذ بحظوظ الحياة الدنيا التي لا يفيت الأخذُ بها حظوظ الآخرة فذلك غير مذموم، وهو مقام كثير من عِباد الله الصالحين حكاه الله تعالى عن صالحي بني إسرائيل من قولهم لقارون: {وابْتَعِ فيما آتاك اللَّه الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا} [القصص: 77]...