قال صاحب الكشاف : قوله : { وَأَهْدِيَكَ إلى رَبِّكَ . . . } أى : وأرشدك إلى معرفة الله ، أى : أنبهك عليه فتعرفه { فتخشى } لأن الخشية لا تكون إلا بالمعرفة . . وذكر الخشية ، لأنها ملاك الأمر ، من خشى الله أتى منه كل خير ، ومن أمن اجترأ على كل شئ . ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : " من خاف أدلج ، - أى : سار فى أول الليل - ومن أدلج بلغ المنزل " .
بدأ مخاطبته بالاستفهام الذى معناه العرض ، كما يقول الرجل لضيفه : هل لك أن تنزل بنا ؟ وأردفه الكلام الرقيق ليستدعيه بالتلطف فى القول ، ويستنزله بالمداراة من عتوه ، كما أمر بذلك فى قوله - تعالى - { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى . . . } والحق أن هاتين الآيتين فيهما أسمى ألوان الإِرشاد إلى الدعوة إلى الحق بالحكمة والموعظة الحسنة .
?( وأهديك إلى ربك فتخشى ) . . هل لك أن أعرفك طريق ربك ? فإذا عرفته وقعت في قلبك خشيته . فما يطغى الإنسان ويعصى إلا حين يذهب عن ربه
بعيدا ، وإلا حين يضل طريقه إليه فيقسو قلبه ويفسد ، فيكون منه الطغيان والتمرد !
كان هذا في مشهد النداء والتكليف . وكان بعده في مشهد المواجهة والتبليغ . والسياق لا يكرره في مشهد التبليغ . اكتفاء بعرضه هناك وذكره . فيطوي ما كان بعد مشهد النداء ، ويختصر عبارة التبليغ في مشهد التبليغ . ويسدل الستار هنا ليرفعه على ختام مشهد المواجهة :
{ وأهديك إلى ربك فتخشى } أي إن كان فيك إعداد نفسك للتزكية يكن إرشادي إياك فتخشى ، فكان ترتيب الجمل في الذكر مراعىً فيه ترتبها في الحصول فلذلك لم يحتج إلى عطفه بفاء التفريع ، إذ كثيراً ما يستغنى بالعطف بالواو مع إرادة الترتيب عن العطف بحرف الترتيب لأن الواو تفيد الترتيب بالقرينة ، ويستغنى بالعطف عن ذكر حرف التفسير في العطف التفسيري الذي يكون الواو فيه بمعنى ( أي ) التفسيرية فإنَّ { أن تزكى وأهديك } في قوة المفرد . والتقدير : هل لك في التزكية وهدايتي إياك فخشيتك الله تعالى .
والهداية الدلالة علء الطريق الموصل إلى المطلوب إذا قبلها المَهْدي .
وتفريع { فتخشى } على { أهديك } إشارة إلى أن خشية الله لا تكون إلا بالمعرفة قال تعالى : { إنما يخشى اللَّه من عبادة العلماء } [ فاطر : 28 ] ، أي العلماء به ، أي يخشاه خشية كاملة لا خطأ فيها ولا تقصير .
قال الطيبي : وعن الواسطي : أوائل العلم الخشية ، ثم الإِجلال ، ثم التعظيم ، ثم الهيبة ، ثم الفناء .
وفي الاقتصار على ذكر الخشية إيجاز بليغ لأن الخشية ملاك كل خير . وفي « جامع الترمذي » عن أبي هريرة قال : " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من خَافَ أدْلَج ومن أَدْلَج بلغ المنزل " {[444]} .
وذُكِر له الإله الحق بوصف { ربك } دون أن يذكر له اسمُ الله العلم أو غيره من طرق التعريف إلطافاً في الدعوة إلى التوحيد وتجنباً لاستطارة نفسه نفوراً ، لأنه لا يعرف في لغة فرعون اسم لله تعالى ، ولو عَرَّفه له باسمه في لغة إسرائيل لنَفر لأن فرعون كان يعبد آلهة باطلة ، فكان في قوله : { إلى ربك } وفرعون يعلم أن له رباً إطماع له أن يرشده موسى إلى ما لا ينافي عقائده فيُصغي إليه سمعه حتى إذا سمع قوله وحجته داخَلهُ الإِيمان الحق مدرَّجاً ، ففي هذا الأسلوب استنزالٌ لطائره .
والخشية : الخوف فإذا أطلقت في لسان الشرع يراد بها خشية الله تعالى ، ولهذا نُزل فعلها هنا منزلة اللازم فلم يذكر له مفعول لأن المخشي معلوم مثل فعل الإِيمان في لسان الشرع يقال : آمَن فلان ، وفلان مؤمن ، أي مؤمن بالله ووحدانيته .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وأهديك إلى ربك} إلى عظمته {فتخشى}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قل لفرعون: هل لك إلى أن أرشدك إلى ما يرضي ربك عنك، وذلك الدين القيّم" فتخشى "يقول: فتخشى عقابه بأداء ما ألزمك من فرائضه، واجتناب ما نهاك عنه من معاصيه...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
فتهتدي، ثم تخشاه إذا اهتديت، أي عرفت عظمته وجلاله {فتخشى} عقوبته، فيكون العلم مثمرا للخشية. ألا ترى إلى قوله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء}؟ [فاطر: 28]. أو يكون {وأهديك} إلى طاعة ربك، وأنذرك عقابه إذا عصيته {فتخشى} فلا تعصيه...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
معناه وأهديك إلى طريق الحق الذي إذا سلكته وصلت إلى رضى الله وثوابه، فالهداية" الدلالة على طريق الرشد من الغي... وقوله (فتخشى) فالخشية: توقع المضرة من غير قطع بها لا محالة، والخشية والخوف والتقية نظائر...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أُقَرِّرُ لك بالآيات صِحَّةَ ما أقول، وأعرفك صحة الدين.. فهل لك ذلك؟ فلم يَقْبَلْ... وأيُّ قلبٍ يسمع هذا الخطاب فلا ينقطع لعذوبة هذا اللفظ؟ وأيَّ كَبِدٍ تعرف هذا فلا تَتَشَقَّقُ لصعوبة هذا المكر؟...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَأَهْدِيَكَ إلى رَبّكَ} وأرشدك إلى معرفة الله أنبهك عليه فتعرفه {فتخشى} لأن الخشية لا تكون إلا بالمعرفة. قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء} [فاطر: 28] أي العلماء به؛ وذكر الخشية لأنها ملاك الأمر، من خشي الله: أتى منه كل خير. ومن أمن: اجترأ على كل شرّ. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: "من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل " بدأ مخاطبته بالاستفهام الذي معناه العرض، كما يقول الرجل لضيفه: هل لك أن تنزل بنا، وأردفه الكلام الرقيق ليستدعيه بالتلطف في القول، ويستنزله بالمداراة من عتوه، كما أمر بذلك في قوله: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً} [طه: 44]...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم أمر موسى أن يفسر له التزكي الذي دعاه إليه بقوله: {وأهديك إلى ربك فتخشى}، والعلم تابع للهدى والخشية تابعة للعلم،...
دلت الآية على أن معرفة الله مقدمة على طاعته، لأنه ذكر الهداية وجعل الخشية مؤخرة عنها ومفرعة عليها، ونظيره قوله تعالى في أول النحل: {أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون} وفي طه: {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني}...
لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن 741 هـ :
{فتخشى} يعني عقابه وإنما خص فرعون بالذكر، وإن كانت دعوة موسى شاملة لجميع قومه لأن فرعون كان أعظمهم فكانت دعوته دعوة لجميع قومه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وأهديك} أي أبين لك بعد التزكية بالإيمان الذي هو الأساس: كيف المسير {إلى ربك} أي الموجد لك والمحسن إليك والمربي لك بتعريفك ما يرضيه من الأعمال وما يغضبه من الخصال بعد أن بلغك في الدنيا غاية الآمال {فتخشى} أي فيتسبب عن ذلك أنك تصير تعمل أعمال من يخاف من عذابه خوفاً عظيماً، فتؤدي الواجبات وتترك المحرمات وسائر المنهيات، فتصير إلى أعلى رتب التزكية فتجمع ملك الآخرة إلى ملك الدنيا،...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هل لك أن أعرفك طريق ربك؟ فإذا عرفته وقعت في قلبك خشيته. فما يطغى الإنسان ويعصى إلا حين يذهب عن ربه بعيدا، وإلا حين يضل طريقه إليه فيقسو قلبه ويفسد، فيكون منه الطغيان والتمرد...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والتقدير: هل لك في التزكية وهدايتي إياك فخشيتك الله تعالى. والهداية الدلالة علء الطريق الموصل إلى المطلوب إذا قبلها المَهْدي. وتفريع {فتخشى} على {أهديك} إشارة إلى أن خشية الله لا تكون إلا بالمعرفة قال تعالى: {إنما يخشى اللَّه من عبادة العلماء} [فاطر: 28]، أي العلماء به، أي يخشاه خشية كاملة لا خطأ فيها ولا تقصير...وذُكِر له الإله الحق بوصف {ربك} دون أن يذكر له اسمُ الله العلم أو غيره من طرق التعريف إلطافاً في الدعوة إلى التوحيد وتجنباً لاستطارة نفسه نفوراً، لأنه لا يعرف في لغة فرعون اسم لله تعالى، ولو عَرَّفه له باسمه في لغة إسرائيل لنَفر لأن فرعون كان يعبد آلهة باطلة، فكان في قوله: {إلى ربك} وفرعون يعلم أن له رباً إطماع له أن يرشده موسى إلى ما لا ينافي عقائده فيُصغي إليه سمعه حتى إذا سمع قوله وحجته داخَلهُ الإِيمان الحق مدرَّجاً، ففي هذا الأسلوب استنزالٌ لطائره.
والخشية: الخوف فإذا أطلقت في لسان الشرع يراد بها خشية الله تعالى، ولهذا نُزل فعلها هنا منزلة اللازم فلم يذكر له مفعول لأن المخشي معلوم مثل فعل الإِيمان في لسان الشرع يقال: آمَن فلان، وفلان مؤمن، أي مؤمن بالله ووحدانيته...
فكأن الخشية المطلوبة لا تتأتى إلا بعد الهداية؛ لأنه إذا هداه إلى ربه ثم علم عظمة ربه فإنه يقيناً سيعلم قدرة ربه ويعلم رحمة ربه، وحينئذٍ لابد وأنه سيستصغر نفسه ويستقلها ويعتبر أن الذي فات من عمره ما هو إلا نزوة يجب عليه أن يرجع عنها ويتوب ويتطهر منها.
إن الإنسان يخشى الله سبحانه وتعالى إذا علم عظمته، وزادت عظمه الله سبحانه وتعالى في نفسه، وقد تذهب خشية الله من نفس بالكلية إذا لم يعلم قدر الله ولا قدر عظمته سبحانه وتعالى، كما يقول الله عز وجل: {إنّما يخشى الله من عباده العلماء (28)} [فاطر].