{ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ } أي : مجازون بأعمالنا ؟ أي : كيف تصدق بهذا الأمر البعيد ، الذي في غاية الاستغراب ، وهو أننا إذا تمزقنا ، فصرنا ترابا وعظاما ، أننا نبعث ونعاد ، ثم نحاسب ونجازى بأعمالنا ؟ " .
أي : يقول صاحب الجنة لإخوانه : هذه قصتي ، وهذا خبري ، أنا وقريني ، ما زلت أنا مؤمنا مصدقا ، وهو ما زال مكذبا منكرا للبعث ، حتى متنا ، ثم بعثنا ، فوصلت أنا إلى ما ترون ، من النعيم ، الذي أخبرتنا به الرسل ، وهو لا شك ، أنه قد وصل إلى العذاب .
ثم يضيف إلى ذلك قوله : { أَإِذَا مِتْنَا } وانتهت حياتنا فى هذه الدنيا ، ووضعنا فى قبورنا { وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً } أى : وصارت أجسادنا مثل التراب ومثل العظام البالية .
{ أَإِنَّا لَمَدِينُونَ } أى : أئنا بعد كل ذلك لمبعوثون ومعادون إلى الحياة مرة أخرى ، ومجزيون بأعمالنا . فقوله - تعالى - : { لَمَدِينُونَ } من الدين بمعنى الجزاء ، ومنه قوله - تعالى - : { مالك يَوْمِ الدين } والاستفهام : للاستبعاد والإِنكار من ذلك القرين للبعث والحساب .
يقول تعالى ذكره : قال قائل من أهل الجنة إذ أقبل بعضهم على بعض يتساءلون : إني كانَ لي قَرِينٌ فاختلف أهل التأويل في القرين الذي ذُكر في هذا الموضع ، فقال بعضهم : كان ذلك القرين شيطانا ، وهو الذي كان يقول له : أئِنّكَ لَمِنَ المُصَدّقِينَ بالبعث بعد الممات . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله : إنّي كانَ لي قَرِينٌ قال : شيطان . وقال آخرون : ذلك القرين شريك كان له من بني آدم أو صاحب . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إنّي كانَ لِي قَرِينٌ يقول أئِنّكَ لَمِنَ المُصَدّقِينَ قال : هو الرجل المشرك يكون له الصاحب في الدنيا من أهل الإيمان ، فيقول له المشرك : إنك لتُصدّق بأنك مبعوث من بعد الموت أئذا كنا ترابا ؟ فلما أن صاروا إلى الاَخرة وأدخل المؤمُن الجنة ، وأدخل المشرك النار ، فاطلع المؤمن ، فرأى صاحبه في سَواء الجحيم قَالَ تَاللّهِ إنْ كِدْتَ لُتردِينِ .
حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد ، قال : عتاب بن بشير ، عن خَصيف ، عن فُرات بن ثعلبة البهراني في قوله : إنّي كانَ لِي قَرِينٌ قال : إن رجلين كانا شريكين ، فاجتمع لهما ثمانية آلاف دِينار ، وكان أحدهما له حرفة ، والاَخر ليس له حرفة ، فقال الذي له حرفة للاَخر : ليس لك حرفة ، ما أُراني إلا مفارقك ومُقاسمك ، فقاسمه وفارقه ثم إن الرجل اشترى دارا بألف دينار كانت لملك قد مات فدعا صاحبه فأراه ، فقال : كيف ترى هذه الدار ابتعُتها بألف دينار ؟ قال : ما أحسنها فلما خرج قال : اللهمّ إن صاحبي هذا قد ابتاع هذه الدار بألف دينار ، وإني أسألك دارا من دور الجنة ، فتَصَدّقَ بألف دينار ثم مكث ما شاء الله أن يمكث ، ثم إنه تزوّج امرأة بألف دينار ، فدعاه وصنع له طعاما فلما أتاه قال : إني تزوّجت هذه المرأة بألف دينار قال : ما أحسن هذا فلما انصرف قال : يا ربّ إن صاحبي تزوّج امرأة بألف دينار ، وإني أسألك امرأة من الحُور العين ، فتصدّق بألف دينار ثم إنه مكث ما شاء الله أن يمكث ، ثم اشترى بستانين بألفي دينار ، ثم دعاه فأراه ، فقال : إني ابتعت هذين البستانين ، فقال : ما أحسن هذا فلما خرج قال : يا ربّ إن صاحبي قد اشترى بساتين بألفي دينار ، وأنا أسألك بستانين من الجنة ، فتصدّق بألفي دينار ثم إن الملك أتاهما فتوفّاهما ثم انطلق بهذا المتصدّق فأدخله دارا تعجبه ، فإذا امرأة تطلع يضيء ما تحتها من حُسنها ، ثم أدخله بستانين ، وشيئا الله به عليم ، فقال عند ذلك : ما أشبه هذا برجل كان من أمره كذا وكذا . قال : فإنه ذاك ، ولك هذا المنزل والبستانان والمرأة . قال : فإنه كان لي صاحب يقول : أئِنّكَ لَمِنَ المُصَدّقِينَ قيل له : فإنه من الجحيم ، قال : فهل أنتم مُطّلِعون ؟ فاطّلَع فرآه في سواء الجحيم ، فقال عند ذلك : تاللّهِ إنْ كِدْتَ لَتُرْدينِ وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبي لَكُنْتُ مِنَ المُحْضَرِينَ . . . الاَيات . .
وهذا التأويل الذي تأوّله فرات بن ثعلبة يقوّي قراءة من قرأ «إنّكَ لمِنَ المُصّدّقِينَ » بتشديد الصاد بمعنى : لمن المتصدقين ، لأنه يذكر أن الله تعالى ذكره إنما أعطاه ما أعطاه على الصدقة لا على التصديق ، وقراءة قرّاء الأمصار على خلاف ذلك ، بل قراءتها بتخفيف الصاد وتشديد الدال ، بمعنى : إنكار قرينه عليه التصديق أنه يبعث بعد الموت ، كأنه قال : أتصدّق بأنك تبعث بعد مماتك ، وتُجْزَى بعملك ، وتحاسَب ؟ يدل على ذلك قول الله : أئِذَا مِتْنا وكُنّا تُرَابا وَعِظاما أئِنّا لَمَدِينونَ وهي القراءة الصحيحة عندنا التي لا يجوز خِلافُها لإجماع الحجة من القرّاء عليها .
وقوله : أئِنّا لَمَدِينُونَ يقول : أئنا لمحاسبون ومجزيّون بعد مصيرنا عظاما ولحومنا ترابا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : أئِنّا لَمَدِينُونَ يقول : أئنا لمجازوْن بالعمل ، كما تَدِين تُدان .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : أئِنّا لَمَدينُونَ : أئنا لمحاسبون .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ أئِنّا لَمَدينُونَ محاسبون .
وجملة { أإِذَا مِتْنَا } بيان لجملة { أإِنَّكَ لمن المُصَدقين } بينت الإِنكار المجمل بإنكار مفصل وهو إنكار أن يبعث الناس بعد تفرق أجزائهم وتحوُّلها تراباً بعد الموت ثم يجازَوا .
وجملة { إنَّا لمَدِينُون } جواب { إذا } . وقرنت بحرف التوكيد للوجه الذي علمته في قوله : { أإِنَّكَ لمِنَ المُصَدقين .
والمدين : المجازَى يقال : دانه يدينه ، إذا جازاه ، والأكثر استعماله في الجزاء على السوء ، والدين : الجزاء كما في سورة الفاتحة . وقيل هنا أإِنا لمَدِينون } وفي أول السورة { إنَّا لمَبْعُوثون } [ الصافات : 16 ] لاختلاف القائلين .
وقرأ الجميع { أإنك } بهمزتين . وقرأ من عدا ابن عامر { أإذَا مِتْنَا } بهمزتين وابن عامر بهمزة واحدة وهي همزة { إذا } اكتفاء بهمزة { أإنا لمدينون } في قراءته . وقرأ نافع { إِنَّا لَمَدِينُونَ } بهمزة واحدة اكتفاء بالاستفهام الداخل على شرطها . وقرأه الباقون بهمزتين .
وجملة { قالَ هل أنتُم مُطَّلِعون } بدل اشتمال من جملة { قالَ قَائِلٌ منهم } لأن قوله : { هل أنتم مطلعون } المحكي بها هو مما اشتمل عليه قوله الأول إذ هو تكملة للقول الأول .