ثم انتقلت السورة الكريمة ، إلى بيان جانب من مظاهر نعمة الأرضية فقال - تعالى - : { والأرض وَضَعَهَا لِلأَنَامِ } .
والمراد بالأنام : الخلائق المختلفون فى ألوانهم وأشكالهم وألسنتهم ، والذين يعيشون فى شتى أقطارها وفجاجها . . . وهو اسم جمع لا واحد له من لفظه .
أى : والأرض " وضعها " أى : أوجدها موضوعة على هذا النظام البديع ، من أجل منفعة الناس جميعا ، لأن إيجادها على تلك الصورة الممهدة المفروشة . . جعلهم ينتفعون بما فيها من كنوز وخيرات ، ويتقلبون عليها من مكان إلى آخر . . . وصدق الله إذ يقول : { هُوَ الذي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً . . . }
ومن ثم يرتبط الحق في الأرض وفي حياة البشر ، ببناء الكون ونظامه . يرتبط بالسماء في مدلولها المعنوي حيث يتنزل منها وحي الله ونهجه . ومدلولها المنظور حيث تمثل ضخامة الكون وثباته بأمر الله وقدرته . . ويلتقي هذان المدلولان في الحس بإيقاعهما وظلالهما الموحية .
( والأرض وضعها للأنام فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام . والحب ذو العصف والريحان ) .
ونحن لطول استقرارنا على هذه الأرض ، وألفتنا لأوضاعها وظواهرها ، ولوضعنا نحن كذلك عليها . نحن لهذا كله لا نكاد نحس يد القدرة التي " وضعت " هذه الأرض للأنام . وجعلت استقرارنا عليها ممكنا وميسورا إلى الحد الذي لا نكاد نشعر به . ولا ننتبه إلى ضخامة معنى الاستقرار ، وعظمة نعمة الله علينا فيه إلا بين الحين والحين حين يثور بركان ، أو يمور زلزال ، فيؤرجح هذه الأرض المطمئنة من تحتنا ، فتضطرب وتمور . عندئذ نتذكر معنى الاستقرار الذي نستمتع به على هذه الأرض بنعمة الله .
والبشر خليقون أن يتذكروا هذه الحقيقة في كل لحظة ، لو أنهم ألقوا بالهم إلى أن أرضهم هذه التي يركنون إليها ، إن هي إلا هباءة سابحة في فضاء الله الوسيع . هباءة تسبح في هذا الفضاء المطلق . تسبح حول نفسها بسرعة نحو ألف ميل في الساعة . وتسبح - مع هذا - حول الشمس بسرعة ستين ألف ميل في الساعة . بينما هي والشمس والمجموعة الشمسية كلها تبعد بجملتها في هذا الفضاء بسرعة عشرين ألف ميل في الساعة متجهة في اتجاه واحد نحو برج الجبار في السماء !
أجل لو أنهم ألقوا بالهم إلى أنهم محمولون على هذه الهباءة السابحة التي تنهب الفضاء نهبا بهذه السرعة ، معلقة في أجوازه بغير شيء إلا قدرة الله . . لظلوا أبدا معلقي القلوب والأبصار ، واجفي الأرواح والأوصال ، لا يركنون إلا للواحد القهار الذي وضع الأرض للأنام ، وأقرهم عليها هذا الإقرار ! !
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالأرْضَ وَضَعَهَا لِلأنَامِ * فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنّخْلُ ذَاتُ الأكْمَامِ * وَالْحَبّ ذُو الْعَصْفِ وَالرّيْحَانُ } .
يقول تعالى ذكره : وَالأَرْضَ وَضَعَها لِلاْءَنَامِ والأرض وَطّأها وهم الأنام . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : للأَنامِ يقول : للخلق .
حدثني محمد بن سعد ، ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : والأرْضَ وَضَعَها للأَنامِ قال : كلّ شيء فيه الروح .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، قال : أخبرنا أبو رجاء ، عن الحسن ، في قوله : والأرْضَ وَضَعَها للأَنامِ قال : للخلق الجنّ والإنس .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : للأَنامِ قال : للخلائق .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة للأَنامِ قال : للخلق .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَضَعَها للأَنامِ قال : الأنام : الخلق .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن مروان ، قال : حدثنا أبو العوّام ، عن قتادة والأرْضَ وَضَعَها للأَنامِ قال : للخلق .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، مثله .
عطف على { والسماء رفعها } [ الرحمن : 7 ] وهو مقابلُهُ في المزاوجة والوضع يقابل الرفع ، فحصل محسِّن الطباق مرتين ، ومعنى { وضعها } خفضها لهم ، أي جعلها تحت أقدامهم وجُنوبهم لتمكينهم من الانتفاع بها بجميع ما لهم فيها من منافع ومعالجات .
واللام في { للأنام } لَلأجْل . والأنام : اختلفت أقوال أهللِ اللغة والتفسير فيه ، فلم يذكره الجوهري ولا الراغب في « مفردات القرآن » ولا ابن الأثير في « النهاية » ولا أبو البقاء الكفوي في « الكليات » . وفسره الزمخشري بقوله : « الخلق وهو كل ما ظهر على وجه الأرض من دابة فيها روح » . وهذا مروي عن ابن عباس وجمععٍ من التابعين . وعن ابن عباس أيضاً : أنه الإِنسان فقط . وهو اسم جمع لا واحد له من لفظه .
وسياق الآية يرجح أن المراد به الإنسان ، لأنه في مقام الامتنان والاعتناء بالبشر كقوله : { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً } [ البقرة : 29 ] .
والظاهر أنه اسم غير مشتق وفيه لغات : أنام كسحاب ، وآنام كساباط ، وأنيم كأمير .