{ وَاصْبِرْ ْ } أي : احبس نفسك على طاعة الله ، وعن معصيته ، وإلزامها لذلك ، واستمر ولا تضجر .
{ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ْ } بل يتقبل الله عنهم أحسن الذي عملوا ، ويجزيهم أجرهم ، بأحسن ما كانوا يعملون ، وفي هذا ترغيب عظيم ، للزوم الصبر ، بتشويق النفس الضعيفة إلى ثواب الله ، كلما ونت وفترت .
هذا ، ثم ختم - سبحانه - هذه التوجيهات الحكيمة بقوله { واصبر فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين } .
أى : واصبر أيها الرسول الكريم أنت ومن معك من المؤمنين على مشاق التكاليف التى كلفكم الله - تعالى - بها ، فإنه - سبحانه - لا يضيع أجر من أحسن عملا ، بل موفى الصابرين أجرهم بغير حساب .
قال الآلوسى : ومن البلاغة القرآنية أن الأوامر بافعال الخير أفردت للنبى - صلى الله عليه وسلم - وإن كانت عامة فى المعنى ، والمناهى جمعت للأمة ، للدالالة على عظم منزلة الرسول - صلى الله عليه وسلم - عند ربه .
والاستقامة في حاجة إلى الصبر . كما أن انتظار الأجل لتحقيق سنة الله في المكذبين يحتاج إلى الصبر . . ومن ثم كان التعقيب على الأمر بالاستقامة وعلى ما سبقه في السياق هو :
( واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ) . .
والاستقامة إحسان . وإقامة الصلاة في أوقاتها إحسان . والصبر على كيد التكذيب إحسان . . . والله لا يضيع أجر المحسنين . . .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاصْبِرْ فَإِنّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } .
يقول تعالى ذكره : واصبر ، يا محمد على ما تلقى من مشركي قومك من الأذى في الله والمكروه رجاء جزيل ثواب الله على ذلك ، فإن الله لا يضيع ثواب عَمَلِ مَنْ أحسن ، فأطاع الله ، واتبع أمره ، فيذهب به ، بل يوفره أحوج ما يكون إليه .
ثم أمره تعالى بالصبر{[6534]} ، وجاءت هذه الآيات في نمط واحد : أعلمه الله تعالى أنه يوفي جميع الخلائق أعمالهم المسيء والمحسن ، ثم أمره بالاستقامة والمؤمنين معه ، ثم أمره بإقامة الصلوات ووعد على ذلك ثم أمره بالصبر على التبليغ والمكاره في ذات الله تعالى ، ثم وعد بقوله : { إن الله لا يضيع أجر المحسنين } .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: واصبر، يا محمد على ما تلقى من مشركي قومك من الأذى في الله والمكروه رجاء جزيل ثواب الله على ذلك، فإن الله لا يضيع ثواب عَمَلِ مَنْ أحسن، فأطاع الله، واتبع أمره، فيذهب به، بل يوفره أحوج ما يكون إليه...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(واصبر) على أذاهم، ولا تكافئهم، فقد أحسنت إليهم (فإن الله لا يضيع أجر المحسنين)...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر على أذى قومه وتكذيبهم اياه، والتجلد عليه، وعلى القيام بما افترض عليه من أداء الواجب، والامتناع من القبيح، وبين له أنه [لا] يضيع ولا يهمل أجر المحسنين على إحسانهم بل يكافيهم عليه أتم الجزاء وأكمل الثواب، و (الصبر) حبس النفس عن الخروج إلى ما لا يجوز من ترك الحق...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ثم كرّ إلى التذكير بالصبر بعد ما جاء بما هو خاتمة للتذكير، وهذا الكرور لفضل خصوصية ومزية وتنبيه على مكان الصبر ومحله، كأنه قال: وعليك بما هو أهمّ مما ذكرت به وأحق بالتوصية، وهو الصبر على امتثال ما أمرت به والانتهاء عما نهيت عنه، فلا يتم شيء منه إلا به {فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} جاء بما هو مشتمل على الاستقامة وإقامة الصلوات والانتهاء عن الطغيان والركون إلى الظالمين والصبر وغير ذلك من الحسنات...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
ثم أمر تعالى بالصبر على التبليغ والمكاره في ذات الله بعدما تقدم من الأوامر والنواهي، ومنبهاً على محل الصبر، إذ لا يتم شيء مما وقع الأمر به والنهي عنه إلا به، وأتى بعام وهو قوله: أجر المحسنين، ليندرج فيه كل من أحسن بسائر خصال الإحسان مما يحتاج إلى الصبر فيه، وما قد لا يحتاج كطبع من خلق كريماً، فلا يتكلف الإحسان إذ هو مركوز في طبعه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان الصبر لله على المكاره أعلى الطاعة، أتبع ذلك قوله: {واصبر} أي ليكن منك صبر على الطاعات وعن المعاصي ولا تترك إنذارهم بما أمرت به مهما كان ولا تخفهم، فإن العاقبة لك إذا فعلت؛ ولما كان المقام الصبر صعباً والاستقامة على المحمود منه خاصة خطراً، وكانت النفس -لما لها من الجزع في كثير من الأحوال- كالمنكرة، أكدَّ قوله: {فإن} الصبر هو الإحسان كل الإحسان وإن {الله} أي المحيط بصفات الكمال {لا يضيع} أي بوجه من الوجوه {أجر المحسنين} أي العريقين في وصف الإحسان بحيث إنهم يعبدون الله كأنهم يرونه، فلذلك يهون عليهم الصبر، ولذلك لأن الطاعة كلفة فلا تكون إلا بالصبر، وكل ما عداها فهو هوى النفس لا صبر فيه، فالدين كله صبر "حفت الجنة بالمكاره والنار بالشهوات "ولذا فضل ثواب الصابر {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} [الزمر: 10] والصبر المحمود: حبس النفس عن الخروج إلى ما لا يجوز من ترك الحق، ونقيضه الجزع...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} أي ووطن نفسك على احتمال المشقة في سبيل ما أمرت به وما نهيت عنه في هذه الوصايا حتى الصلاة، كما قال {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها} [طه: 132] واستعن بالصبر والصلاة على سائر أعباء الدعوة إلى الإسلام والإصلاح، وانتظار عاقبتها من النصر والفلاح، فإن هذا من الإحسان الذي لا جزاء له إلا الإحسان، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين في أعمالهم في الدنيا ولا في الآخرة، بل يوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله، ولكن للجزاء في أمور الأمم آجالا وأقدارا يجب الصبر في انتظارها، وعدم استعجالها قبل أوانها.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والاستقامة في حاجة إلى الصبر. كما أن انتظار الأجل لتحقيق سنة الله في المكذبين يحتاج إلى الصبر.. ومن ثم كان التعقيب على الأمر بالاستقامة وعلى ما سبقه في السياق هو: (واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين).. والاستقامة إحسان. وإقامة الصلاة في أوقاتها إحسان. والصبر على كيد التكذيب إحسان... والله لا يضيع أجر المحسنين...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وتوجيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم تنويه به. والمقصود هو وأمته بقرينة التعليل بقوله: {فإنّ الله لا يُضيع أجر المحسنين} لما فيه من العموم والتفريع المقتضي جمعهما أنّ الصبر من حسنات المحسنين وإلا لَمَا كان للتفريع موقع. وحرف التأكيد مجلوب للاهتمام بالخبر. وسمّي الثواب أجراً لوقوعه جزاء على الأعمال وموعوداً به فأشبه الأجر...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين}. الأمر في هذه الآية وما قبلها للنبي صلى الله عليه وسلم ابتداء، ولمن يتبعه من المؤمنين انتهاء، وهنا ملاحظة بيانية، تليق بالقرآن الكريم المعجزة الكبرى في بيانه، وكل شؤونه. هذه الملاحظة هي أنه في المطالب الإيجابية يكون الخطاب في هذه الآيات للنبي صلى الله عليه وسلم ابتداء، ويكون لأمته بالتبع، ولكن في هذه الآيات نجد النهي متجها ابتداء إلى الجماعة الإسلامية، فقال تعالى: {ولا تطغوا} وقال تعالى: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا}؛ لأنه لا نهي إلا حيث يتصور وقوع النهي عنه، ولا يمكن أن يتصور من النبي صلى الله عليه وسلم طغيان، أو ركون إلى الظالمين. والصبر ضبط النفس عند وقوع ما لا يرغب، أو ما يرغب، فالصبر على النعمة، لا يفرح بها فلا يبطرها بل يشكرها، والصبر على وقوع ما لا يرغب بأن تنزل به شديدة فإنه يكون بألا يفزع ولا يهلع، فيضطرب تفكيره، ويطيش ولا يتدبر الأمر في رفق، وثبات جأش، واطمئنان وقلب...
وبين الله تعالى أن الصبر من إحسان المحسنين فقال تعالت كلماته: {واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} أي الذين يعملون العمل الصالح، ويحسنونه، ويداومون عليه بالصبر، ولا يجزعون لحرمان أو شدة، ولا يأشرون ويبطرون إن اختبرهم الله تعالى. الفساد يعم بسكوت الأخيار...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وتعقيباً على تأثير الصلاة في بناء شخصية الإِنسان وبيان تأثير الحسنات على محو السيئات، يأتي الأمر بالصبر في الآية الأُخرى بعدها (واصبر فإنّ الله لا يضيع أجر المحسنين). وبالرغم من أنّ بعض المفسّرين حاول تحديد معنى الصبر في هذه الآية في الصلاة، أو إيذاء الأعداء للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، إِلاّ أنّ من الواضح أن لا دليل على ذلك بل أن الآية تحمل مفهوماً واسعاً كلياً وجامعاً ويشمل كل أنواع الصبر أمام المشاكل والمخالفات والأذى والطغيان والمصائب المختلفة، فالصمود أمام جميع هذه الحوادث يندرج تحت مفهوم الصبر. «الصبر» أصل كلّي وأساس إِسلامي، يأتي أحياناً في القرآن مقروناً بالصلاة، ولعل ذلك آت من أن الصلاة تبعث في الإِنسان الحركة، والأمر بالصبر يوجب المقاومة، وهذان الأمران، أي «الحركة والمقاومة» حين يكونان جنباً إلى جنب يثمران كل أشكال النجاح والموفقية. وأساساً لا يتحقق عمل صالح دون صبر ومُقاومة... لأنّه لابدّ من إِيصال الأعمال الصالحة إلى النهاية، ولذلك فإنّ الآية المتقدمة تعقب على الأمر بالصبر بثواب الله وأجره إِذ تقول: (إِنّ الله لا يضيع أجر المحسنين) ومعنى ذلك أن العمل الصالح لا يتيسر دون صبر ومقاومة...
لا بأس بذكر هذه المسألة الدقيقة، وهي أنّ الناس ينقسمون إلى عدّة جماعات إزاء الحوادث العسيرة الصعبة:
فجماعة تفقد شخصيّتها فوراً، وكما يعبر القرآن (وإذا مسّه الشر جزوعاً).
وجماعة آخرون يصمدون أمام الأزمات بكل تحمّل وتجلّد.
وجماعة آخرون بالإِضافة إلى صمودهم وتحملهم للأزمة، فإنّهم يؤدّون الشكر لله.
وجماعة آخرون يتجهون إلى الأزمات والمصاعب بشوق وعشق، ويفكرون في كيفية التغلب عليها. ولا يعرفون التعب والنصب في متابعة الأُمور، ولا يهدأون حتى تزول المشاكل.
وقد وعد الله مثل هؤلاء الصابرين بالنصر المؤزر (إِن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين).
وأنعم عليهم وأثابهم في الدار الأُخرى بالجنّة (وجزاهم بما صبروا جنةً وحريراً).