ثم أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يستمر فى دعوته دون أن يعول على تعنت المشركين فقال - تعالى - { اتبع مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إله إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين } .
أى عليك يا محمد أن تداوم على تبليغ رسالتك ، متبعا فى ذلك ما أوحاه إليك ربك الذى لا إله إلا هو من آيات وهدايات ، معرضا عن المشركين الذين يفترون على الله الكذب وهم يعلمون .
وجملة { لا إله إِلاَّ هُوَ } معترضة لتأكيد إيجاب الاتباع ، أو حال مؤكدة لقوله " من ربك " بمعنى : منفرداً فى الألوهية .
ثم تقع المفاصلة بين قوم مبصرين يعلمون ، وقوم عمي لا يعلمون !
ويصدر الأمر العلوي للنبي الكريم ، وقد صرف الله الآيات ، فافترق الناس في مواجهتها فريقين . . يصدر الأمر العلوي للنبي [ ص ] أن يتبع ما أوحي إليه ، وأن يعرض عن المشركين ، فلا يحفلهم ولا يحفل ما يقولون من قول متهافت ، ولا يشغل باله بتكذيبهم وعنادهم ولجاجهم . فإنما سبيله أن يتبع ما أوحي إليه من ربه ؛ فيصوغ حياته كلها على أساسه ؛ ويصوغ نفوس أتباعه كذلك . ولا عليه من المشركين ؛ فإنما هو يتبع وحي الله ، الذي لا إله إلا هو ، فماذا عليه من العبيد ؟ !
( اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو ، وأعرض عن المشركين ) . .
يقول تعالى آمرا لرسوله{[11030]} صلى الله عليه وسلم ولمن اتَّبع طريقته : { اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } أي : اقتد به ، واقتف أثره ، واعمل به ؛ فإن ما أوحي إليك من ربك هو الحق الذي لا مِرْية فيه ؛ لأنه لا إله إلا هو .
{ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ } أي : اعف عنهم واصفح ، واحتمل أذاهم ، حتى يفتح الله لك وينصرك ويظفرك عليهم .
{ اتّبِعْ مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رّبّكَ لآ إِلََهَ إِلاّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * وَلَوْ شَآءَ اللّهُ مَآ أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : اتبع يا محمد ما أمرك به ربك في وحيه الذي أوحاه إليك ، فاعمل به ، وانزجر عما زجرك عنه فيه ، ودع ما يدعوك إليه مشركو قومك من عبادة الأوثان والأصنام ، فإنه لا إله إلاّ هُوَ يقول : لا معبود يستحقّ عليك إخلاص العبادة له إلا الله الذي هو فالق الحبّ والنوى وفالق الإصباح وجاعل الليل سكنا والشمس والقمر حسباناً . وَأعْرِضْ عَنِ المُشركينَ ، يقول : ودع عنك جدالهم وخصومتهم . ثم نسخ ذلك جلّ ثناؤه بقوله في براءة : فاقْتُلُوا المُشْركِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ . . . الاَية . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس ، أما قوله : وأعْرضْ عَن المُشْركِينَ ونحوه مما أمر الله المؤمنين بالعفو عن المشركين ، فإنه نسخ ذلك قوله : اقْتُلُوا المُشْركِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ .
استئناف في خطاب النّبيء عليه الصّلاة والسّلام لأمره بالإعراض عن بهتان المشركين وأن لا يكترث بأقوالهم ، فابتداؤه بالأمر باتّباع ما أوحي إليه يتنزّل منزلة المقدّمة للأمر بالإعراض عن المشركين ، وليس هو المقصد الأصلي من الغرض المسوق له الكلام ، لأنّ اتّباع الرّسول صلى الله عليه وسلم ما أوحي إليه أمر واقع بجميع معانيه ؛ فالمقصود من الأمر الدّوام على اتّباعه . والمعنى : أعرض عن المشركين اتّباعاً لما أنزل إليك من ربّك . والمراد بما أوحي إليه القرآن .
والاتِّباع في الأصل اقتفاء أثر الماشِي ، ثمّ استعمل في العمل بمثل عمل الغير ، كما في قوله : { والّذين اتّبعوهم بإحسان } [ التوبة : 100 ] . ثمّ استعمل في امتثال الأمر والعمل بما يأمر به المتبوع فهو الائتمار ، ويتعدّى فعله إلى ذات المتَّبَع فيقال : اتَّبعت فلاناً بهذه المعاني الثّلاثة وهو على حذف مضاف في جميع ذلك لأنّ الاتّباع لا يتعلّق بالذّات .
وإطلاق الاتّباع بمعنى الائتمار شائع في القرآن لأنّه جاء بالأمر والنّهي وأمر النّاس باتّباعه ، واستُعمل أيضاً في معنى الملازمة على سبيل المجاز المرسل ، لأنّ من يتّبع أحداً يلازمه . ومنه سمّي الرّئيّ من الجنّ في خرافات العرب تابعة ، ومنه سمّى من لازم الصّحابي وروى عنه تابعياً .
فيجوز أن يكون الاتّباع في الآية مراداً به دوام الامتثال لما أمر به القرآن من الإعراض عن أذى المشركين وعنادهم ، فالاتّباع المأمور به اتّباع في شيء مخصوص ، وهذا مأمور به غير مرّة ، فالأمر بالفعل مستمرّ في الأمر بالدّوام عليه .
ويجوز أن يكون أمراً بملازمة الدّعوة إلى الله والإعلان بها ودعاء المشركين إلى التّوحيد والإيمان وأن لا يعتريه في ذلك لَيْن ولا هوادة حتّى لا يكون لبذاءتهم وتكذيبهم إيّاه تأثير على نفسه يوهن دعوتهم والحرصَ على إيمانهم واعتقاد أنّ محاولة إيمانهم لا جدوى لها . فالمراد بما أوحي إليه ما أوحي من القرآن خطاباً للمشركين ، أو أمراً بدعوتهم للإسلام وعدم الانقطاع عن ذلك ، فيكون الكلام شدّاً لساعد النّبيء صلى الله عليه وسلم في مقامات دعوته إلى الله ، وهذا هو المناسب لقوله : { لا تسبّوا الّذين يدعون من دون الله } [ الأنعام : 108 ] كما سنبيّنه . وقد تقدّم شيء من هذا آنفاً عند قوله تعالى : { إنْ أتَّبِعُ إلاّ ما يوحَى إليّ } [ الأنعام : 50 ] . وليس المراد من الأمر بالاتّباع الأمرُ باتّباع أوامر القرآن ونواهيه مطلقاً ، لأنّه لا مناسبة له بهذا السّياق ، وفي الإتيان بلفظ : { ربّك } دون اسم الجلالة تأنيس للرّسول صلى الله عليه وسلم وتلطّف معه .
وجملة : { لا إله إلاّ هو } معترضة ، والمقصود منها إدماج التّذكير بالوحدانيّة لزيادة تقرّرها وإغاظة المشركين .
والمراد بالإعراض عن المشركين الإعراض عن مكابرتهم وأذاهم لا الإعراض عن دعوتهم ، فإنّ الله لم يأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بقطع الدّعوة لأي صنف من النّاس ، وكلّ آية فيها الأمر بالإعراض عن المشركين فإنّما هو إعراض عن أقوالهم وأذاهم ، ألا ترى كلّ آية من هذه الآيات قد تلتْها آيات كثيرة تدعو المشركين إلى الإسلام والإقلاع عن الشّرك كقوله تعالى في سورة [ النّساء : 63 ] : { فأعرض عنهم وعِظْهُم } وقد تقدّم .