قوله تعالى : { ومن آبائهم } ، من فيه للتبعيض ، لأن آباء بعضهم كانوا مشركين .
قوله تعالى : { وذرياتهم } ، أي : ومن ذرياتهم ، وأراد ذرية بعضهم . لأن عيسى ويحيى لم يكن لهما ولد ، وكان في ذرية بعضهم من كان كافراً .
قوله تعالى : { وإخوانهم واجتبيناهم } ، اخترناهم واصطفيناهم .
ثم ذكر - سبحانه - فضائل من يتصل بهؤلاء الأنبياء الكرام فقال :
{ وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ } أى : ومن آباء هؤلاء الأنبياء وذرياتهم وإخوانهم من هديناه إلى الطريق المستقيم فمن هنا للتبعيض .
والجملة معطوفة على { فَضَّلْنَا } أى : فضلنا هؤلاء الأنبياء واخترناهم وهديناهم إلى الطريق الواضح . قال الراغب : " والاجتباء الجمع على طريق الاصطفاء قال - تعالى - { فاجتباه رَبُّهُ } واجتباء العبد تخصيصه إياه بفيض إلهى يتحصل له منه أنواع من النعم بلا سعى من العبد وذلك للأنبياء وبعض من يقاربهم من الصديقين والشهداء " .
وقبل أن نغادر هذه الفقرة نحب أن نستمتع بنفحة من نفحات الحياة في عصر صحابة رسول الله [ ص ]
- وهذا القرآن يتنزل عليهم غضا ؛ وتشربه نفوسهم ؛ وتعيش به وله ؛ وتتعامل به وتتعايش بمدلولاته وإيحاءاته ومقتضياته ، في جد وفي وعي وفي التزام عجيب ، تأخذنا روعته وتبهرنا جديته ؛ وندرك منه كيف كان هذا الرهط الفريد من الناس ، وكيف صنع الله بهذا الرهط ما صنع من وفي الآيات ذكر لسبعة عشر نبيا رسولا - غير نوح وإبراهيم - وإشارة إلى آخرين ( من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم ) . . والتعقيبات على هذا الموكب : ( وكذلك نجزي المحسنين ) . ( وكلا فضلنا على العالمين ) . . ( واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم ) . . وكلها تعقيبات تقرر إحسان هذا الرهط الكريم واصطفاءه من الله ، وهدايته إلى الطريق المستقيم .
وذكر هذا الرهط على هذا النحو ، واستعراض هذا الموكب في هذه الصورة ، كله تمهيد للتقريرات التي تليه :
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرّيّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ } . .
يقول تعالى ذكره : وهدينا أيضا من آباء هؤلاء الذين سماهم تعالى ذكره ومن ذرّياتهم وإخوانهم آخرين سواهم لم يسمهم للحقّ والدين الخالص الذي لا شرك فيه ، فوفقناهم له . وَاجْتَبَيْنَاهُمْ يقول : واخنترناهم لديننا وبلاغ رسالتنا إلى من أرسلناهم إليه ، كالذي اخترنا ممن سمينا يقال منه : اجتبى فلان لنفسه كذا : إذا اختاره واصطفاه يجتبيه اجتباء . وكان مجاهد يقول في ذلك ، ما :
حدثني به محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله الله تعالى ذكره : وَاجْتَبَيْنَاهُمْ قال : أخلصناهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
وَهَدَيْنَاهُمْ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ يقول : وسدّدناهم فأرشدناهم إلى طريق غير معوّج ، وذلك دين الله الذي لا عوج فيه ، وهو الإسلام الذي ارتضاه الله ربنا لأنبيائه ، وأمر به عباده .
وقوله : { ومن آبائهم } عطف على قوله : { كُلاً } . فالتَّقدير : وهدينا من آبائهم وذرّيّاتهم وإخوانهم . وجعل صاحب « الكشاف » ( مِن ) اسما بمعنى بعض ، أي وهدينا بعض آبائهم على طريقته في قوله تعالى : { من الَّذين هادوا يحرّفون } [ النساء : 46 ] . وقدّر ابنُ عطيّة ومن تبعه المعطوف محذوفاً تقديره : ومن آبائهم جمعاً كثيراً أو مهديين كثيرين ، فتكون ( مِن ) تبعيضية متعلّقة ب { هدينا } .
والذرّيَّات جمع ذرّيَّة ، وهي مَن تناسل من الآدمي من أبناء أدْنَيْن وأبنائهم فيشمل أولاد البنين وأولاد البنات . ووجه جمعه إرادة أنّ الهدى تعلّق بذرّيّة كلّ من له ذرّيّة من المذكورين للتنبيه على أنّ في هدي بعض الذرّية كرامة للجدّ ، فكلّ واحد من هؤلاء مراد وقوعُ الهدي في ذرّيَّته . وإنْ كانت ذرّياتهم راجعين إلى جدّ واحد وهو نوح عليه السّلام . ثمّ إن كان المراد بالهدى المقدّر الهُدَى المماثل للهُدى المصرّح به ، وهو هُدى النّبوءة ، فالآباء يشمل مثل آدم وإدريس عليهم السلام فإنّهم آباء نوح .