قوله تعالى : { فلما أتاها } رأى شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها أطافت بها نار بيضاء تتقد كأضوأ ما يكون ، فلا ضوء النار يغير خضرة الشجرة ، ولا خضرة الشجرة تغير ضوء النار . وقال ابن مسعود : كانت شجرة سمرة خضراء . وقال قتادة ، و مقاتل ، و الكلبي : كانت من العوسج . وقال وهب : كانت من العليق . وقيل : كانت شجرة العناب ، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما . وقال أهل التفسير : لم يكن الذي رآه موسى ناراً بل كان نوراً ذكر بلفظ النار ، لأن موسى حسبه ناراً . وقال أكثر المفسرين : إنه نور الرب عز وجل ، وهو قول ابن عباس ، و عكرمة وغيرهما . وقال سعيد بن جبير : هي النار بعينها وهي إحدى حجب الله تعالى يدل عليه ما روينا عن أبي موسى الأشعري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " حجابه النار لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه " . وفي القصة : أن موسى أخذ شيئاً من الحشيش اليابس وقصد الشجرة ، فكان كلما دنا نأت منه النار ، وإذا نأى دنت ، فوقف متحيراً وسمع تسبيح الملائكة وألقيت عليه السكينة .
{ فَلَمَّا أَتَاهَا } أي : النار التي آنسها من بعيد ، وكانت -في الحقيقة- نورا ، وهي نار تحرق وتشرق ، ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : " حجابه النور أو النار ، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره " فلما وصل إليها نودي منها ، أي : ناداه الله ، كما قال : { وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا }
ثم بين - سبحانه - ما حدث لموسى بعد أن اقترب من النار فقال : { فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ يا موسى إني أَنَاْ رَبُّكَ فاخلع نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بالواد المقدس طُوًى } .
أى : فلما أتى موسى - عليه السلام - إلى النار ، واقترب منها . . . { نُودِيَ } من قبل الله - عز وجل - { ياموسى إني أَنَاْ رَبُّكَ } الذى خلقك فسواك فعدلك . . . { فاخلع نَعْلَيْكَ } تعظيما لأمرنا . وتأدبا فى حضرتنا .
وقوله { إِنَّكَ بالواد المقدس طُوًى } تعليل للأمر بخلع النعل ، أى : أزل نعليك من رجليك لأنك الآن موجود بالوادى { المقدس } أى : المظهر المبارك ، المسمى طوى : فهو عطف بيان من الوادى .
فلما أتاها نودي : يا موسى إني أنا ربك . فاخلع نعليك . إنك بالوادي المقدس طوى . وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى . إنني أنا الله لا إله إلا أنا ، فاعبدني وأقم الصلاة لذكري . إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى . فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى . .
إن القلب ليجف ، وإن الكيان ليرتجف . وهو يتصور - مجرد تصور - ذلك المشهد . . موسى فريد في تلك الفلاة . والليل دامس ، والظلام شامل ، والصمت مخيم . وهو ذاهب يلتمس النار التي آنسها من جانب الطور .
يقول تعالى : { فَلَمَّا أَتَاهَا } أي : النار واقترب{[19225]} منها ، { نُودِيَ يَا مُوسَى } وفي الآية الأخرى : { نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ } [ القصص : 30 ]
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمّآ أَتَاهَا نُودِيَ يَمُوسَىَ * إِنّيَ أَنَاْ رَبّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدّسِ طُوًى } .
يقول تعالى ذكره : فلما أتى النار موسى ، ناداه ربه : يا مِوسَى إنّي رَبّك فاخْلَعْ نَعْلَيْكَ كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن وهب بن منبه ، قال : خرج موسى نحوها ، يعني نحو النار ، فإذا هي في شجر من العليق ، وبعض أهل الكتاب يقول في عوسجة فلما دنا استأخرت عنه فلما رأى استئخارها رجع عنها ، وأوجس في نفسه منها خيفة فلما أراد الرجعة ، دنت منه ثم كلم من الشجرة ، فلما سمع الصوت استأنس ، وقال الله تبارك وتعالى : يا مُوسَى اخْلَعْ نَعْلَيْكَ إنّكَ بالوَادِ المُقَدّسِ طُوًى فخلعها فألفاها .
واختلف أهل العلم في السبب الذي من أجله أمر الله موسى بخلع نعليه ، فقال بعضهم : أمره بذلك ، لأنهما كانتا من جلد حمار ميت ، فكره أن يطأ بهما الوادي المقدّس ، وأراد أن يمسه من بركة الوادي . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن عاصم ، عن أبي قلابة ، عن كعب ، أنه رآهم يخلعون نعالهم اخْلَعْ نَعْلَيْكَ إنّكَ بالوَادِ المُقَدّسِ طُوى فقال : كانت من جلد حمار ميت ، فأراد الله أن يمسه القدس .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسين ، عن يزيد ، عن عكرمة ، في قوله " فاخْلَعْ نَعْلَيْكَ " قال : كانتا من جلد حمار ميت .
حدثنا بِشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعد ، عن قَتادة ، قال : حدثنا ، أن نعليه كانتا من جلد حمار ، فخلعهما ثم أتاه .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، في قوله " فاخْلَعْ نَعْلَيْكَ " قال : كانتا من جلد حمار ، فقيل له اخلعهما .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج . قال : وأخبرني عمر بن عطاء عن عكرمة وأبو سفيان ، عن معمر ، عن جابر الجعفي ، عن عليّ بن أبي طالب " فاخْلَعْ نَعْلَيْكَ " قال : كانتا من جلد حمار ، فقيل له اخلعهما . قال : وقال قَتادة مثل ذلك .
وقال آخرون : كانتا من جلد بقر ، ولكن الله أراد أن يطأ موسى الأرض بقدميه ، ليصل إليه بركتها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال الحسن : كانتا ، يعني نعلي موسى ، من بقر ، ولكن إنما أراد الله أن يباشر بقدميه بركة الأرض ، وكان قد قدس مرّتين . قال ابن جُرَيْج : وقيل لمجاهد : زعموا أن نعليه كانتا من جلد حمار أو ميتة ، قال : لا ، ولكنه أمر أن يباشر بقدميه بركة الأرض .
حدثني يعقوب ، قال : قال أبو بشر ، يعني ابن علية ، سمعت ابن أبي نجيح ، يقول في قوله : " فاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إنّكَ بالْوَادِ المُقَدّسِ طُوًى " قال : يقول : أفض بقدميك إلى بركة الوادي .
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : أمره الله تعالى ذكره بخلع نعليه ليباشر بقدميه بركة الوادي ، إذ كان واديا مقدسا .
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالصواب ، لأنه لا دلالة في ظاهر التنزيل على أنه أمر بخلعهما من أجل أنهما من جلد حمار ولا لنجاستهما ، ولا خبر بذلك عمن يلزم بقوله الحجة ، وإن في قوله إنّكَ بالوَادِ المُقَدّسِ بعقبه دليلاً واضحا ، على أنه إنما أمره بخلعهما لما ذكرنا . ولو كان الخبر الذي :
حدثنا به بشر قال : حدثنا خلف بن خليفة عن حميد بن عبد الله بن الحارث ، عن ابن مسعود ، عن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، قال : «يَوْمَ كَلّمَ اللّهُ مُوسَى ، كانَتْ عَلَيْهِ جُبّةُ صُوفٍ وكساءُ صُوفٍ ، وسَرَاوِيلُ صُوفٍ ، وَنَعْلانِ مِنْ جِلْدِ حِمارٍ غيرِ مُذَكَى » صحيحا لم نعده إلى غيره ، ولكن في إسناده نظر يجب التثبت فيه .
واختلفت القراءة في قراءة قوله : " إنّي أنا رَبّكَ " فقرأ ذلك بعض قرّاء المدينة والبصرة : «نُودِيَ يا مُوسَى أنّي » بفتح الألف من «أني » ، فأنّ على قراءتهم في موضع رفع بقوله : نودي ، فإن معناه كان عندهم : نودي هذا القول . وقرأه بعض عامة قرّاء المدينة والكوفة بالكسر : نُودِيَ يا موسى إني على الابتداء ، وأن معنى ذلك قيل : يا موسى إني .
قال أبو جعفر : والكسر أولى القراءتين عندنا بالصواب ، وذلك أن النداء قد حال بينه وبين العمل في أن قوله «يا موسى » ، وحظ قوله «نودي » أن يعمل في أن لو كانت قبل قوله «يا موسى » ، وذلك أن يقال : نودي أن يا موسى إني أنا ربك ، ولا حظّ لها في «إن » التي بعد موسى .
وأما قوله : " إنّكَ بالوَادِ المُقَدّسِ " فإنه يقول : إنك بالوادي المطهر المبارك ، كما :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : " إنّكَ بالوَادِ المُقَدّسِ " يقول المبارك .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال مجاهد ، قوله " إنّكَ بالوَادِ المُقَدّسِ طُوًى " قال : قُدّس بُورك مرّتين .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، قوله : " إنّكَ بالوَادِ المُقَدّسِ طُوًى " قال : بالوادي المبارك .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله طُوًى فقال بعضهم : معناه : إنك بالوادي المقدس طويته ، فعلى هذا القول من قولهم طوى مصدر خرج من غير لفظه ، كأنه قال : طويت الوادي المقدس طوى . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : قوله : " إنّكَ بالوَادِ المُقَدّسِ طُوًى " يعني الأرض المقدسة ، وذلك أنه مرّ بواديها ليلاً فطواه ، يقال : طويت وادي كذا وكذا طوى من الليل ، وارتفع إلى أعلى الوادي ، وذلك نبيّ الله موسى صلى الله عليه وسلم .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : مرّتين ، وقال : ناداه ربه مرّتين فعلى قول هؤلاء طوى مصدر أيضا من غير لفظه ، وذلك أن معناه عندهم : نودي يا موسى مرّتين نداءين . وكان بعضهم ينشد شاهدا لقوله طوى ، أنه بمعنى مرّتين ، قول عديّ بن زيد العبادي :
أعاذِلَ إنّ اللّوْمَ فِي غَيْرِ كُنْهِهِ *** عَليّ طُوىً مِنْ غَيّكِ المُتَرَدّدِ
وروى ذلك آخرون : «عليّ ثِنىً » : أي مرّة بعد أخرى ، وقالوا : طُوىً ونِثىً بمعنى واحد . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بِشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، " فاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إنّكَ بالوَادِ المُقَدّسِ طُوًى " كنا نحدّث أنه واد قدّس مرّتين ، وأن اسمه طُوَى .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : إنه قدّس طوى مرّتين . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جُرَيج ، قال الحسن : كان قد قدّس مرّتين .
وقال آخرون : بل طُوى : اسم الوادي . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : طُوَى : اسم للوادي .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : طُوى : قال : اسم الوادي .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله " بالوَادِ المُقَدّسِ طُوًى " قال : ذاك الوادي هو طوى ، حيث كان موسى ، وحيث كان إليه من الله ما كان . قال : وهو نحو الطور .
وقال آخرون : بل هو أمر من الله لموسى أن يطأ الوادي بقدميه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن منصور الطوسي ، قال : حدثنا صالح بن إسحاق ، عن جعفر بن برقان ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس ، في قول الله تبارك وتعالى : " اخْلَعْ نَعْلَيْكَ إنّكَ بالوَادِ المُقَدّسِ طُوًى " قال : طأ الوادي .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى ، قال : حدثنا الحسن ، عن يزيد ، عن عكرمة ، في قوله : طُوًى قال : طأ الوادي .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن سعيد بن جبير ، في قول الله طُوًى قال : طأ الأرض حافيا ، كما تدخل الكعبة حافيا ، يقول : من بركة الوادي .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد طُوًى طأ الأرض حافيا .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأه بعض قرّاء المدينة : «طُوَى » بضم الطاء وترك التنوين ، كأنهم جعلوه اسم الأرض التي بها الوادي ، كما قال الشاعر :
نَصَرُوا نَبِيّهُمُ وَشَدّوا أزْرَهُ *** بِحُنَيْنَ حِينَ تَوَاكُلِ الأبْطالِ
فلم يجرّ حنين ، لأنه جعله اسما للبلدة لا للوادي ولو كان جعله اسما للوادي لأجراه كما قرأت القرّاء : " وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ، إذْ أعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ " ، وكما قال الاَخر :
ألَسْنا أكْرَمَ الثّقَلَيْنِ رَحْلاً *** وأعْظَمَهُمْ بِبَطْنِ حرَاءَ نارَا
فلم يجرّ حراء ، وهو جبل ، لأنه جعله اسما للبلدة ، فكدلك «طُوَى » في قراءة من لم يجره جعله اسما للأرض . وقرأ ذلك عامّة قرّاء أهل الكوفة : طُوًى بضم الطاء والتنوين وقارئو ذلك كذلك مختلفون في معناه على ما قد ذكرت من اختلاف أهل التأويل فأما من أراد به المصدر من طويت ، فلا مؤنة في تنوينه وأما من أراد أن يجعله اسما للوادي ، فإنه إنما ينوّنه لأنه اسم ذكر لا مؤنث ، وأن لام الفعل منه ياء ، فزاده ذلك خفة فأجراه كما قال الله : " وَيَوْمَ حُنَيْنٍ " إذ كان حنين اسم واد ، والوادي مذكر .
قال أبو جعفر : وأولى القولين عندي بالصواب قراءة من قرأه بضم الطاء والتنوين ، لأنه إن يكن اسما للوادي فحظه التنوين لما ذكر قبل من العلة لمن قال ذلك ، وإن كان مصدرا أو مفسرا ، فكذلك أيضا حكمه التنوين ، وهو عندي اسم الوادي . وإذ كان ذلك كذلك ، فهو في موضع خفض ردّا على الوادي .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فلما أتى النارَ موسى، ناداه ربه:"يا موسَى إنّي رَبّك فاخْلَعْ نَعْلَيْكَ"...
واختلف أهل العلم في السبب الذي من أجله أمر الله موسى بخلع نعليه؛ فقال بعضهم: أمره بذلك، لأنهما كانتا من جلد حمار ميت، فكره أن يطأ بهما الوادي المقدّس، وأراد أن يمسه من بركة الوادي...
وقال آخرون: كانتا من جلد بقر، ولكن الله أراد أن يطأ موسى الأرض بقدميه، ليصل إليه بركتها...
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: أمره الله تعالى ذكره بخلع نعليه ليباشر بقدميه بركة الوادي، إذ كان واديا مقدسا.
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالصواب، لأنه لا دلالة في ظاهر التنزيل على أنه أمر بخلعهما من أجل أنهما من جلد حمار ولا لنجاستهما، ولا خبر بذلك عمن يلزم بقوله الحجة، وإن في قوله "إنّكَ بالوَادِ المُقَدّسِ "بعقبه دليلاً واضحا، على أنه إنما أمره بخلعهما لما ذكرنا...
وأما قوله: "إنّكَ بالوَادِ المُقَدّسِ "فإنه يقول: إنك بالوادي المطهر المبارك... واختلف أهل التأويل في تأويل قوله "طُوًى"؛
فقال بعضهم: معناه: إنك بالوادي المقدس طويته، فعلى هذا القول من قولهم (طوى) مصدر خرج من غير لفظه، كأنه قال: طويت الوادي المقدس طوى... عن ابن عباس: قوله: "إنّكَ بالوَادِ المُقَدّسِ طُوًى" يعني الأرض المقدسة، وذلك أنه مرّ بواديها ليلاً فطواه، يقال: طويت وادي كذا وكذا طوى من الليل، وارتفع إلى أعلى الوادي، وذلك نبيّ الله موسى صلى الله عليه وسلم.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: مرّتين، وقال: ناداه ربه مرّتين، فعلى قول هؤلاء (طوى) مصدر أيضا من غير لفظه، وذلك أن معناه عندهم: نودي يا موسى مرّتين نداءين...
وروى ذلك آخرون: «عليّ ثِنىً»: أي مرّة بعد أخرى، وقالوا: طُوىً وثنىً بمعنى واحد...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إنه قدّس طوى مرّتين... وقال آخرون: بل طُوى: اسم الوادي...
وقال آخرون: بل هو أمر من الله لموسى أن يطأ الوادي بقدميه... عن عكرمة، في قوله: "طُوًى" قال: طأ الوادي...
وأولى القولين عندي بالصواب قراءة من قرأه بضم الطاء والتنوين... وهو عندي اسم الوادي.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فلما أتاها نودي يا موسى} أي نداء وحي {يا موسى} {إني أنا ربك فاخلع نعليك}...أمره بذلك للتواضع والخضوع له، لأن لبس النعل يُخَرَّجُ مخْرَجَ المباهاة. فأمر بذلك ليكون أخضع له وأكثر تواضعا.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله تعالى {فلما أتاها} الضمير عائد على النار، وقوله {نودي} كناية عن تكليم الله له...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... بني فعل النداء للمجهول زيادة في التشويق إلى استطلاع القصة، فإبهام المنادي يشوّق سامع الآية إلى معرفته فإذا فاجأه {إنِّي أنا ربُّكَ} علم أنّ المنادي هو الله تعالى فتمكن في النفس كمال التمكن. ولأنه أدخل في تصوير تلك الحالة بأنّ موسى ناداه مناد غير معلوم له، فحكي نداؤه بالفعل المبني للمجهول.
... قوله تعالى: {نودي يا موسى} أي: في هذه الدهشة {نودي} فالذي يناديه يعرفه تماما؛ لذلك ناداه باسمه {يا موسى}: وما دام الأمر كذلك فطمع الخير فيه موجود، وبدأ موسى يطمئن إلى مصدر النداء، ويأنس به، ويبحث عن مصدر هذا الصوت، ولا يعرف من أين هو...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
... لقد أُمر أن يخلع نعليه، لأنّه قد وضع قدمه في أرض مقدسة.. الأرض التي تجلى فيها النور الإِلهي، ويسمع فيها نداء الله، ويتحمل مسؤولية الرسالة، فيجب أن يخطو في الأرض بمنتهى الخضوع والتواضع، وهذا هو سبب خلعه النعل عن رجله...
إِنّ التعبير ب (طوى) إِمّا لأنّ اسم تلك الأرض كان أرض طوى، كما قال ذلك أغلب المفسّرين، ولأن «طوى» في الأصل بمعنى الإِحاطة، وهنا كناية عن أن البركات المعنوية التي أحاطت هذه الأرض من كل جانب...