مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{فَلَمَّآ أَتَىٰهَا نُودِيَ يَٰمُوسَىٰٓ} (11)

وفي قوله : { وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى } دلالة على أن في هذه الحالة أوحى الله إليه وجعله نبيا ، وعلى هذا الوجه يبعد ما ذكروه من تأخر النار عنه وبين فساد ذلك قوله تعالى : { فلما أتاها نودي يا موسى } وإن كانت تتأخر عنه حالا بعد حال لما صح ذلك ولما بقي لفاء التعقيب فائدة قلنا : القاضي إنما بنى هذا الاعتراض على مذهبه في أن الإرهاص غير جائز وذلك عندنا باطل فبطل قوله وأما التمسك بفاء التعقيب فقريب لأن تخلل الزمان القليل فيما بين المجيء والنداء لا يقدح في فاء التعقيب .

المسألة الرابعة : قرأ أبو عمرو وابن كثير ( أنى ) بالفتح أي نودي بأني أنا ربك والباقون بالكسر أي نودي فقيل : يا موسى أو لأن النداء ضرب من القول فعومل معاملته .

المسألة الخامسة : قال الأشعري إن الله تعالى أسمعه الكلام القديم الذي ليس بحرف ولا صوت ، وأما المعتزلة فإنهم أنكروا وجود ذلك الكلام فقالوا : إنه سبحانه خلق ذلك النداء في جسم من الأجسام كالشجرة أو غيرها لأن النداء كلام الله تعالى والله قادر عليه ومتى شاء فعله ، وأما أهل السنة من أهل ما وراء النهر فقد أثبتوا الكلام القديم إلا أنهم زعموا أن الذي سمعه موسى عليه السلام صوت خلقه الله تعالى في الشجرة واحتجوا بالآية على أن المسموع هو الصوت المحدث قالوا : إنه تعالى رتب النداء على أنه أتى النار والمرتب على المحدث محدث فالنداء محدث .

المسألة السادسة : اختلفوا في أن موسى عليه السلام كيف عرف أن المنادي هو الله تعالى فقال أصحابنا : يجوز أن يخلق الله تعالى له علما ضروريا بذلك ويجوز أن يعرفه بالمعجزة ، قالت المعتزلة : أما العلم الضروري فغير جائز لأنه لو حصل العلم الضروري بكون هذا النداء كلام الله تعالى لحصل العلم الضروري بوجود الصانع العالم القادر لاستحالة أن تكون الصفة معلومة بالضرورة والذات تكون معلومة بالاستدلال ولو كان وجود الصانع تعالى معلوما له بالضرورة لخرج موسى عن كونه مكلفا لأن حصول العلم الضروري ينافي التكليف ، وبالإتفاق لم يخرج موسى عن التكليف فعلمنا أن الله تعالى عرفه ذلك بالمعجز ثم اختلفوا في ذلك المعجز على وجوه . أولها : منهم من قال نعلم قطعا أن الله تعالى عرفه ذلك بواسطة المعجز ولا حاجة بنا إلى أن نعرف ذلك المعجز ما هو . وثانيها : يروى أن موسى عليه السلام لما شاهد النور الساطع من الشجرة إلى السماء وسمع تسبيح الملائكة وضع يديه على عينيه فنودي يا موسى ؟ فقال : لبيك إني أسمع صوتك ولا أراك فأين أنت ؟ قال : أنا معك وأمامك وخلفك ومحيط بك وأقرب إليك منك . ثم إن إبليس أخطر بباله هذا الشك وقال : ما يدريك أنك تسمع كلام الله ؟ فقال : لأني أسمعه من فوقي ومن تحتي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي كما أسمعه من قدامي ، فعلمت أنه ليس بكلام المخلوقين . ومعنى إطلاقه هذه الجهات أنى أسمعه بجميع أجزائي وأبعاضي حتى كأن كل جارحة مني صارت أذنا . وثالثها : لعله سمع النداء من جماد كالحصى وغيرها فيكون ذلك معجزا . ورابعها : أنه رأى النار في الشجرة الخضراء بحيث أن تلك الخضرة ما كانت تطفئ تلك النار وتلك النار ما كانت تضر تلك الخضرة ، وهذا لا يقدر عليه أحد إلا الله سبحانه .