{ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ } أي : في ميدان التسارع في أفعال الخير ، همهم ما يقربهم إلى الله ، وإرادتهم مصروفة فيما ينجي من عذابه ، فكل خير سمعوا به ، أو سنحت لهم الفرصة إليه ، انتهزوه وبادروه ، قد نظروا إلى أولياء الله وأصفيائه ، أمامهم ، ويمنة ، ويسرة ، يسارعون في كل خير ، وينافسون في الزلفى عند ربهم ، فنافسوهم . ولما كان السابق لغيره المسارع قد يسبق لجده وتشميره ، وقد لا يسبق لتقصيره ، أخبر تعالى أن هؤلاء من القسم السابقين فقال :
{ وَهُمْ لَهَا } أي : للخيرات { سَابِقُونَ } قد بلغوا ذروتها ، وتباروا هم والرعيل الأول ، ومع هذا ، قد سبقت لهم من الله سابقة السعادة ، أنهم سابقون .
واسم الإشارة فى قوله - تعالى - : { أولئك يُسَارِعُونَ فِي الخيرات } يعود إلى هؤلاء المؤمنين الموصوفين بتلك الصفات الجليلة .
وهذه الجملة خبر عن قوله - تعالى - : { إِنَّ الذين هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ } وما عطف عليه ، فاسم " إن " : أربع موصولات ، وخبرها جملة { أولئك يُسَارِعُونَ فِي الخيرات . . } .
أى : أولئك الموصوفون بتلك الصفات ، يبادرون برغبة وسرعة إلى فعل الخيرات ، وإلى الوصول إلى ما يرضى الله - تعالى - { وَهُمْ لَهَا } أى : لهذه الخيرات وما يترتب عليها من فوز وفلاح { سَابِقُونَ } لغيرهم .
وهؤلاء هم الذين يسارعون في الخيرات ، وهم الذين يسبقون لها فينالونها في الطليعة ، بهذه اليقظة ، وبهذا التطلع ، وبهذا العمل ، وبهذه الطاعة . لا أولئك الذين يعيشون في غمرة ويحسبون لغفلتهم أنهم مقصودون بالنعمة ، مرادون بالخير ، كالصيد الغافل يستدرج إلى مصرعه بالطعم المغري . ومثل هذا الطير في الناس كثير ، يغمرهم الرخاء ، وتشغلهم النعمة ، ويطغيهم الغنى ، ويلهيهم الغرور ، حتى يلاقوا المصير !
وقوله : { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ } أي : يعطون العطاء{[20576]} وهم خائفون{[20577]} ألا يتقبل منهم ، لخوفهم{[20578]} أن يكونوا قد قصروا في القيام بشروط الإعطاء . وهذا من باب الإشفاق والاحتياط ، كما قال الإمام أحمد
حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا مالك بن مِغْوَل ، حدثنا عبد الرحمن بن سعيد بن وهب ، عن عائشة ؛ أنها قالت : يا رسول الله ، { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } ، هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر ، وهو يخاف الله عز وجل ؟ قال : " لا يا بنت أبي بكر ، يا بنت الصديق ، ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق ، وهو يخاف الله عز وجل " .
وهكذا رواه الترمذي وابن أبي حاتم ، من حديث مالك بن مِغْوَل ، به بنحوه{[20576]} . وقال : " لا يا بنت الصديق ، ولكنهم الذين يصلون ويصومون ويتصدقون ، وهم يخافون ألا يقبل منهم ، { أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ } قال الترمذي : ورُوي هذا الحديث من حديث عبد الرحمن بن سعيد ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا{[20577]} .
وهكذا قال ابن عباس ، ومحمد بن كعب القرظي ، والحسن البصري في تفسير هذه الآية .
وقد قرأ آخرون هذه الآية : " والذين يأتون ما أتوا وقلوبهم وجلة " أي : يفعلون ما يفعلون وهم خائفون ، وروي هذا مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ كذلك .
قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا صخر بن جُوَيْرِية ، حدثنا إسماعيل المكي ، حدثني أبو خلف مولى بني جُمَح : أنه دخل مع عُبَيد بن عُمَيْر على{[20578]} عائشة ، رضي الله عنها ، فقالت : مرحبًا بأبي عاصم ، ما يمنعك أن تزورنا - أو : تُلِمّ بنا ؟ - فقال : أخشى أن أمُلَّك . فقالت : ما كنت لتفعل ؟ قال : جئت لأسأل{[20582]} عن آية في كتاب الله عز وجل ، كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها ؟ قالت : أيَّة آية ؟ فقال : { الَّذِينَ يَأْتُونَ مَا أَتَوْا } أو { الَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا } ؟ فقالت : أيتهما{[20583]} أحب إليك ؟ فقلت : والذي نفسي بيده ، لإحداهما أحب إلي من الدنيا جميعًا{[20584]} - أو : الدنيا وما فيها - قالت : وما هي ؟ فقلت : { الَّذِينَ يَأْتُونَ مَا أَتَوْا } فقالت : أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك كان يقرؤها ، وكذلك أنزلت ، ولكن الهجاء حرف{[20585]} .
إسماعيل بن مسلم المكي ، وهو ضعيف .
والمعنى على القراءة الأولى - وهي قراءة الجمهور : السبعة وغيرهم - أظهر ؛ لأنه قال : { أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ } ، فجعلهم من السابقين . ولو كان المعنى على القراءة الأخرى لأوشك ألا يكونوا من السابقين ، بل من المقتصدين أو المقصرين ، والله تعالى أعلم .
وقوله : أُولَئِكَ يُسارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ يقول تعالى ذكره : هؤلاء الذين هذه الصفات صفاتهم ، يبادرون في الأعمال الصالحة ويطلبون الزلفة عند الله بطاعته . كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : أُولَئكَ يُسارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ .
وقوله : وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ كان بعضهم يقول : معناه : سبقت لهم من الله السعادة ، فذلك سبوقهم الخيرات التي يعملونها . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَهُمْ لَها سَابِقُونَ يقول : سبقت لهم السعادة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَهُمْ لَهَا سابِقُونَ ، فتلك الخيرات .
وكان بعضهم يتأوّل ذلك بمعنى : وهم إليها سابقون . وتأوّله آخرون : وهم من أجلها سابقون .
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب القول الذي قاله ابن عباس ، من أنه سبقت لهم من الله السعادة قبل مسارعتهم في الخيرات ، ولما سبق لهم من ذلك سارعوا فيها .
وإنما قلت ذلك أولى التأويلين بالكلام لأن ذلك أظهر معنييه ، وأنه لا حاجة بنا إذا وجهنا تأويل الكلام إلى ذلك ، إلى تحويل معنى «اللام » التي في قوله : وَهُمْ لَهَا إلى غير معناها الأغلب عليها .
{ أولئك يسارعون في الخيرات } يرغبون في الطاعات أشد الرغبة فيبادرونها ، أو يسارعون في نيل الخيرات الدنيوية الموعودة على صالح الأعمال بالمبادرة إليها كقوله تعالى { فآتاهم ثواب الدنيا } فيكون إثباتا لهم ما نفي عن أضدادهم . { وهم لها سابقون } لأجلها فاعلون السبق أو سابقون الناس إلى الطاعة أو الثواب أبو الجنة ، أو سابقونها أي ينالونها قبل الآخرة حيث عجلت لهم في الدنيا كقوله تعالى : { هم لها عاملون } .
وقرأ الجمهور «يسارعون » وقرأ الحر النحوي «يسرعون وأنهم إليها سابقون » ، وهذا قول بعضهم في قوله لها ، وقالت فرقة : معناه وهم من أجلها سابقون ، فالسابق على هذا التأويل هو إلى رضوان الله تعالى وعلى الأول هو إلى الخيرات ، وقال الطبري عن ابن عباس : المعنى سبقت لهم السعادة في الأزل فهم لها ورجحه الطبري بأن اللام متمكنة في المعنى{[8509]} .