الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{أُوْلَـٰٓئِكَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡخَيۡرَٰتِ وَهُمۡ لَهَا سَٰبِقُونَ} (61)

قوله : { أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ } : هذه الجملةُ خبرُ " إنَّ الذين " . وقرأ الأعمش " إنهم " بالكسرِ على الاستئنافِ فالوقفُ على " وَجِلة " تامٌّ أو كافٍ . وقرأ الحُرُّ " يُسْرِعُون " منْ أَسْرع . قال الزجاج : " يُسارِعُون أَبْلَغُ " يعني من حيث إنَّ المفاعَلة تَدُلُّ على قوةِ الفعلِ لأجلِ المغالبةِ .

قوله : { وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ } في الضمير في " لها " أوجهٌ ، أظهرها : أنَّه يعودُ على " الخيرات " لتقدُّمِها في اللفظ . وقيل : يعودُ على الجنة . وقيل : على السعادة . وقيل : على الأمم ، . والظاهرُ أنَّ " سابقون " هو الخبرُ . و " لها " متعلقٌ به قُدِّمَ للفاصلةِ وللاختصاصِ . واللامُ قيل : بمعنى إلى . يقال : سَبَقْتُ له وإليه بمعنىً . ومفعولُ " سابقون " محذوفٌ تقديرُه : سابقون الناسَ إليها . وقيل : اللامُ للتعليل أي : سابِقُون الناسَ لأجلِها . وتكونُ هذه الجملةُ مؤكدةً للجملةِ قبلها ، وهي " يُسارِعُون في الخيرات " ولأنها تفيدُ معنىً آخرَ وهو الثبوتُ والاستقرارُ بعدما دَلَّتِ الأولى على التجدد .

وقال الزمخشري : " أي فاعلون السَّبْقِ لأجلها أو سابقونَ الناسَ لأجلها " . قال الشيخ : " وهذان القولان عندي واحدٌ " . قلت : ليسا بواحدٍ إذ مرادُه بالتقدير الأول أَنْ لا يُقَدَّرَ للسَّبْقِ مفعولٌ البتةَ ، وإنما الغرضُ الإِعلامُ بوقوعِ السَّبْقِ منهم غيرِ نَظَرٍ إلى مَنْ سَبقوه كقولِه : { يُحْيِي وَيُمِيتُ }

[ البقرة : 258 ] { وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ } [ البقرة : 187 ] " يعطي ويمنع " وغرضُه في الثاني تقديرُ مفعولٍ حُذِف للدلالةِ ، واللام للعلة في التقديرين .

وقال الزمخشري أيضاً : " أو إياها سابقون أي : ينالونها قبل الآخرة ، حيث عُجِّلت لهم في الدنيا " . قلت : يعني أنَّ " لها " هو المفعولُ ب " سابقون " وتكون اللامُ قد زِيْدَتْ في المفعولِ . وحَسَّن زيادتَها شيئان ، / كلٌّ منهما لو انفرد لاقتضى الجوازَ : كونُ العاملِ فرعاً ، وكونُه مقدَّماً عليه معمولُه . قال الشيخ : " ولا يَدُل لفظُ " لها سابِقُون " على هذا التفسيرِ لأنَّ سَبْقَ الشيءِ الشيءَ يدلُّ على تقدُّمِ السابقِ على المسبوقِ فكيفَ يقول : وهم يَسْبقون الخيراتِ ؟ وهذا لا يَصِحُّ " . قلت : ولا أَدْري : عدمُ الصحةِ من أيِّ جهةٍ ؟ وكأنه تخيَّل أنَّ السابِقَ يتقدَّم على المسبوق فكيف يتلاقيان ؟ لكنه كان ينبغي أن يقولَ : فكيف يقول : وهم ينالون الخيرات وهم لا يُجامِعُونها لتقدُّمهم عليها ؟ إلاَّ أنْ يكونَ قد سبقه القلمُ فكَتَبَ بدل " وهم يَنالون " : " وهم يَسْبِقون " ، وعلى كلِّ تقديرٍ فأين عَدَمُ الصِّحة ؟ .

وقال الزمخشري أيضاً : " ويجوز أَنْ يكونَ " وهم لها سابقون " خبراً بعد خبرٍ ، ومعنى " وهم لها " كمعنى قوله :

أنت لها أحمدُ مِنْ بينِ البَشَرْ ***

يعني أنَّ هذا الوصفَ الذي وَصَفَ به الصالحين غيرُ خارجٍ من حَدِّ الوُسْعِ والطاقةِ " . فتحصَّل في اللامِ ثلاثةُ أقوالٍ ، أحدُها : أنَّها بمعنى " إلى " . الثاني : أنها للتعليلِ على بابِها . الثالث : أنَّها مزيدةٌ . وفي خبرِ المبتدأ قولان ، أحدُهما : أنه " سابِقون " وهو الظاهرُ . والثاني : أنه الجارُّ كقولِه : أنت لها أحمدُ مِنْ بينِ البَشَرْ ***

وقد رجَّحه الطبريُّ ، وهو مرويٌّ عن ابنِ عباس .