فحينئذ ، من اللّه عليهما بالتوبة وقبولها ، فاعترفا بالذنب ، وسألا من اللّه مغفرته فقالا : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } أي : قد فعلنا الذنب ، الذي نهيتنا عنه ، وضربنا بأنفسنا باقتراف الذنب ، وقد فعلنا سبب الخسار إن لم تغفر لنا ، بمحو أثر الذنب وعقوبته ، وترحمنا بقبول التوبة والمعافاة من أمثال هذه الخطايا .
فغفر اللّه لهما ذلك { وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى }
هذا وإبليس مستمر على طغيانه ، غير مقلع عن عصيانه ، فمن أشبه آدم بالاعتراف وسؤال المغفرة والندم والإقلاع - إذا صدرت منه الذنوب - اجتباه ربه وهداه .
ومن أشبه إبليس - إذا صدر منه الذنب ، لا يزال يزداد من المعاصي - فإنه لا يزداد من اللّه إلا بعدا .
وأمام النداء العلوي يتكشف الجانب الآخر في طبيعة هذا الكائن المتفرد . . إنه ينسى ويخطئ . إن فيه ضعفاً يدخل منه الشيطان . إنه لا يلتزم دائماً ولا يستقيم دائماً . . ولكنه يدرك خطأه ؛ ويعرف زلته ؛ ويندم ويطلب العون من ربه والمغفرة . . إنه يثوب ويتوب ؛ ولا يلح كالشيطان في المعصية ، ولا يكون طلبه من ربه هو العون على المعصية !
( قالا : ربنا ظلمنا أنفسنا ، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ) . .
إنها خصيصة " الإنسان " التي تصله بربه ، وتفتح له الأبواب إليه . . الاعتراف ، والندم ، والاستغفار ، والشعور بالضعف ، والاستعانة به ، وطلب رحمته . مع اليقين بأنه لا حول له ولا قوة إلا بعون الله ورحمته . . وإلا كان من الخاسرين . .
وقال الضحاك بن مُزَاحِم في قوله : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } هي الكلمات التي تلقاها آدم من ربه [ عز وجل ]{[11627]}
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالاَ رَبّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } .
قَالاَ رَبّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنّ مِنَ الْخَاسِرِينَ وهذا خبر من الله جلّ ثناؤه عن آدم وحوّاء فيما أجاباه به ، واعترافهما على أنفسهما بالذنب ، ومسئلتهما إياه المغفرة منه والرحمة ، خلاف جواب اللعين إبليس إياه . ومعنى قوله : قالا رَبّنا ظَلَمْنا أنْفُسَنا قال : آدم وحوّاء لربهما : يا ربنا فعلنا بأنفسنا من الإساءة إليها بمعصيتك وخلاف أمرك وبطاعتنا عدوّنا وعدوّك ، فيما لم يكن لنا أن نطيعه فيه من أكل الشجرة التي نهيتنا عن أكلها . وَإنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا يقول : وإن أنت لم تستر علينا ذنبنا فتغطيه علينا ، وتترك فضيحتنا به بعقوبتك إيانا عليه ، وترحمنا بتعطفك علينا ، وتركك أخذنا به لَنَكُونَنّ مِنَ الخاسِرِينَ يعني : لنكوننّ من الهالكين . وقد بيّنا معنى الخاسر فيما مضى بشواهده والرواية فيه بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : قال آدم عليه السلام : يا ربّ ، أرأيت إن تبت واستغفرتك ؟ قال : إذا أدخلك الجنة وأما إبليس فلم يسأله التوبة ، وسأل النظِرة ، فأعطى كلّ واحد منهما ما سأل .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، في قوله : رَبّنا ظَلَمْنا أنْفُسَنا وَإن لَمْ تَغْفِرْ لَنا . . . الاَية ، قال : هي الكلمات التي تلقاها آدم من ربه .
{ قالا ربنا ظلمنا أنفسنا } أضررناها بالمعصية والتعريض للإخراج من الجنة . { وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } دليل على أن الصغائر معاقب عليها إن لم تغفر . وقالت المعتزلة لا يجوز المعاقبة عليها مع اجتناب الكبائر ولذلك قالوا : إنما قالا ذلك على عادة المقربين في استعظام الصغير من السيئات واستحقار العظيم من الحسنات .