وقوله - سبحانه - : { حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً } تهديد ووعيد للكافرين بسبب استهزائهم بالمؤمنين ، فقد حكى القرآن عن الكفار أنهم قالوا : { نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ } { وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } وقالوا : { متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } و { حتى } هنا حرف ابتداء ، وهى متعلقة بمحذوف دل عليه الكلام ، وهو سخرية الكافرين من المؤمنين و { إذا } اسم زمان للمستقبل مضمن معنى الشرط ، وهى فى محل نصب بجوابه الذى هو قوله { فَسَيَعْلَمُونَ } .
والمعنى : أن هؤلاء الكفار لا يزالون على ما هم عليه من غرور وعناد وجحود . . حتى إذا رأوا ما يوعدون من العذاب فى الدنيا والآخرة { فَسَيَعْلَمُونَ } حينئذ من هو أضعف جندا وأقل عددا ، أهم المؤمنون - كما يزعم هؤلاء الكافرون - ؟ أم أن الأمر سيكون على العكس ؟ لا شك أن الأمر سيكون على العكس ، وهو أن الكافرين فى هذا اليوم سيكونون فى غاية الضعف والذلة والهوان .
وجئ بالجملة التى أضيف إليها لفظ " إذا " فعلا ماضيا ، للتنبيه على تحقق الوقوع . والآية الكريمة تشير إلى خيبة هؤلاء الكافرين ، وتلاشى آمالهم . . فإنهم فى هذا اليوم سيفقدون الناصر لهم ، كما أنهم سيفقدونه من جهة أنفسهم ، لأنهم مهما كثر عددهم ، فهم مغلوبون .
قل : إني لن يجيرني من الله أحدا ولن أجد من دونه ملتحدا . إلا بلاغا من الله ورسالاته . . . . .
وهذه هي القولة الرهيبة ، التي تملأ القلب بجدية هذا الأمر . . أمر الرسالة والدعوة . . والرسول [ صلى الله عليه وسلم ] يؤمر بإعلان هذه الحقيقة الكبيرة . . إني لن يجيرني من الله أحد ، ولن أجد من دونه ملجأ أو حماية ، إلا أن أبلغ هذا الأمر ، وأؤدي هذه الأمانة ، فهذا هو الملجأ الوحيد ، وهذه هي الإجارة المأمونة . إن الأمر ليس أمري ، وليس لي فيه شيء إلا التبليغ ، ولا مفر لي من هذا التبليغ . فأنا مطلوب به من الله ولن يجيرني منه أحد ، ولن أجد من دونه ملجأ يعصمني ، إلا أن أبلغ وأؤدي !
يا للرهبة ! ويا للروعة ! ويا للجد !
إنها ليست تطوعا يتقدم به صاحب دعوة . إنما هو التكليف . التكليف الصارم الجازم ، الذي لا مفر من أدائه . فالله من ورائه !
وإنها ليست اللذة الذاتية في حمل الهدى والخير للناس . إنما هو الأمر العلوي الذي لا يمكن التلفت عنه ولا التردد فيه !
وهكذا يتبين أمر الدعوة ويتحدد . . إنها تكليف وواجب . وراءه الهول ، ووراءه الجد ، ووراءه الكبير المتعال !
( ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا . حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا ) .
فهو التهديد الظاهر والملفوف لمن يبلغه هذا الأمر ثم يعصي . بعد التلويح بالجد الصارم في التكليف بذلك البلاغ .
وإذا كان المشركون يركنون إلى قوة وإلى عدد ، ويقيسون قوتهم إلى قوة محمد [ صلى الله عليه وسلم ] والمؤمنين القلائل معه ، فسيعلمون حين يرون ما يوعدون - إما في الدنيا وإما في الآخرة - ( من أضعف ناصرا وأقل عددا ) . . وأي الفريقين هو الضعيف المخذول القليل الهزيل !
ونعود إلى مقالة الجن فنجدهم يقولون : ( وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا )فنجد التعقيب على القصة يتناسق معها . ونجد القصة تمهد للتعقيب فيجيء في أوانه وموعده المطلوب !
وقوله : { حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا } أي : حتى إذا رأى هؤلاء المشركون من الجن والإنس ما يوعدون يوم القيامة فسيعلمون يومئذ من أضعف ناصرًا وأقل عددًا ، هم أم المؤمنون الموحدون لله عز وجل ، أي : بل المشركين لا ناصر لهم بالكلية ، وهم أقل عددًا من جنود الله عز وجل .