قوله عز وجل : { ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه } ، يهدونهم ، { ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم } .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنبأنا الحسن بن شجاع الصوفي المعروف بابن الموصلي ، أنبأنا أبو بكر بن الهيثم ، حدثنا جعفر بن محمد الصائغ ، حدثنا حسين بن محمد ، حدثنا سفيان عن قتادة عن أنس " أن رجلاً قال : يا رسول الله كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيام ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الذي أمشاه على رجليه قادر على أن يمشيه على وجهه " . وجاء في الحديث : " إنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك " . { عمياً وبكماً وصماً } . فإن قيل : كيف وصفهم بأنهم عمي وبكم وصم . وقد قال : { ورأى المجرمون النار } [ الكهف – 53 ] ، وقال : { دعوا هنالك ثبورا } [ الفرقان – 13 ] ، وقال : { سمعوا لها تغيظاً وزفيراً } [ الفرقان – 12 ] ، أثبت الرؤية والكلام والسمع ؟ . قيل : يحشرون على ما وصفهم الله ثم تعاد إليهم هذه الأشياء . وجواب آخر ، قال ابن عباس : عميا لا يرون ما يسرهم ، بكماً ، لا ينطقون بحجة ، صماً لا يسمعون شيئاً يسرهم . وقال الحسن : هذا حين يساقون إلى الموقف إلى أن يدخلوا النار . وقال مقاتل : هذا حين يقال لهم : { اخسؤوا فيها ولا تكلمون } [ المؤمنون – 108 ] ، فيصيرون بأجمعهم عمياً وبكماً وصماً ، لا يرون ولا ينطقون ولا يسمعون . { مأواهم جهنم كلما خبت } ، قال ابن عباس : كلما سكنت ، أي : سكن لهيبها . وقال مجاهد : طفئت وقال قتادة : ضعفت وقيل : هو الهدو من غير أن يوجد نقصان في ألم الكفار ، لأن الله تعالى قال : { لا يفتر عنهم } [ الزخرف – 75 ] ، وقيل : { كلما خبت } أي : أرادت أن تخبو ، { زدناهم سعيراً } أي : وقوداً . وقيل : المراد من قوله : { كلما خبت } أي : نضجت جلودهم واحترقت أعيدوا فيها إلى ما كانوا عليه ، وزيد في تسعير النار لتحرقهم { ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا } فأجابهم الله تعالى فقال : { أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض } .
وقوله - عز وجل - : { ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا وَقَالُواْ أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً } بيان للأسباب التى أفضت بهم إلى تلك العاقبة السيئة .
أى : ذلك الذى نزل بهم من العذاب الشديد ، المتمثل فى حشرهم على وجوههم وفى اشتعال النار بهم ، سببه أنهم كفروا بآياتنا الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا وقالوا بإنكار وجهالة : أئذا كنا عظامًا نخرة ، ورفاتا أى وصارت أجسادنا تشبه التراب فى تفتتها وتكسرها ، أئنا بعد ذلك لمعادون إلى الحياة ومبعوثون على هيئة خلق جديد .
فالآية الكريمة تحكى تصميمهم على الكفر ، وإنكارهم للبعث والحساب إنكارًا لا مزيد عليه ، لذا كانت عقوبتهم شنيعة ، وعذابهم أليمًا . فقد سلط الله - تعالى - عليهم النار تأكل أجزاءهم ، وكلما سكن لهيبها ، أعادها الله - تعالى - ملتهبة مشتعلة على جلود أخرى لهم ، كما قال - تعالى -
{ إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذاب . . . }
وهي نهاية مفزعة وجزاء مخيف . ولكنهم يستحقونه بكفرهم بآيات الله : ( ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا )واستنكروا البعث واستبعدوا وقوعه : ( وقالوا : أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا ? )
والسياق يعرض هذا المشهد كأنه هو الحاضر الآن ، وكأنما الدنيا التي كانوا فيها قد انطوت صفحتها وصارت ماضيا بعيدا . . وذلك على طريقة القرآن في تجسيم المشاهد وعرضها واقعة حية ، تفعل فعلها في القلوب والمشاعر قبل فوات الأوان .
يقول تعالى : هذا الذي جازيناهم به ، من البعث على العمى والبكم والصمم ، جزاؤهم الذي يستحقونه ؛ لأنهم كذبوا ( بِآيَاتِنَا ) أي بأدلتنا{[17864]} وحججنا ، واستبعدوا وقوع البعث ( وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا ) بالية نخرة ( أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ) أي : بعد ما صرنا إلى ما صرنا إليه من البلى والهلاك ، والتفرق والذهاب في الأرض نعاد مرة ثانية ؟
القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا وَقَالُواْ أَإِذَا كُنّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً } .
يقول تعالى ذكره : هذا الذي وصفنا من فعلنا يوم القيامة بهؤلاء المشركين ، ما ذكرت أن نفعل بهم من حشرهم على وجوههم عميا وبكما وصما ، وإصلائنا إياهم النار على ما بيّنا من حالتهم فيها ثوابَهم بكفرهم في الدنيا بآياتنا ، يعني بأدلته وحججه ، وهم رسله الذين دعوهم إلى عبادته ، وإفرادهم إياه بالألوهة دون الأوثان والأصنام ، وبقولهم إذا أُمروا بالإيمان بالميعاد ، وبثواب الله وعقابه في الاَخرة أئِذَا كُنّا عِظاما بالية وَرُفاتا قد صرنا ترابا أئِنّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقا جَدِيدا يقولون : نُبعث بعد ذلك خلقا جديدا كما ابتدأناه أوّل مرّة في الدنيا استنكارا منهم لذلك ، واستعظاما وتعجبا من أن يكون ذلك .