قوله تعالى : { ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض } ، الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم ، و المراد به الجميع ، وقيل معناه : ألم تعلم أيها الإنسان ، فيكون خطاباً لكل أحد من الناس .
قوله تعالى : { يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء } ، قال السدي والكلبي : يعذب من يشاء من مات على كفره ، ويغفر لمن يشاء من تاب من كفره . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : يعذب من يشاء على الصغيرة ، ويغفر لمن يشاء على الكبيرة .
وذلك أن لله{[263]} ملك السماوات والأرض ، يتصرف فيهما بما شاء من التصاريف القدرية والشرعية ، والمغفرة والعقوبة ، بحسب ما اقتضته حكمته ورحمته الواسعة ومغفرته .
ثم ساق - سبحانه - ما يدل على شمول قدرته ، ونفاذ إرادته بصيغة الاستفهام التقريري فقال - تعالى - : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض } بحيث يتصرف فيهما وفي غيرهما من خلقه تصرف المالك في ملكه بدون مدافع أو منازع .
فالاستفهام هنا لتقرير العلم وتأكيده . أي إنك تعلم أيها العاقل ذلك علما . متيقتا ، فاعمل بمقتضى هذا العلم ، بأن تكون مطيعا لخالقك في كل ما أمر ونهى وبأن تدعو غيرك إلى هذه الطاعة .
وقوله : { يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ } تأكيد لشمول قدرته ونفاذ إرادته ، أي : هو - سبحانه - المالك لكل شيء ، والخالق لكل شيء وهو صاحب السلطان المطلق في خلقه ، فله - سبحانه - أن يعذب من يشاء تعذيبه وله أن يرحم من يشاء رحمته .
قال الآلوسي : وكان الظاهر لحديث : " سبقت رحمتي غضبي " تقديم المغفرة على التعذيب ، وإنما عكس هنا ، لأن التعذيب للمصر على السرقة ، والمغفرة للتائب منها . وقد قدمت السرقة في الآية أولا ثم ذكرت التوبة بعدها فجاء هذا اللاحق على ترتيب السابق .
أو لأن المراد بالتعذيب القطع ، وبالمغفرة التجاوز عن حق الله - تعالى - والأول في الدنيا والثاني في الآخرة ، فجيء به على ترتيب الوجود . ولأن المقام مقام الوعيد .
وقوله : { والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } تذييل مؤكد لما قبله ، ومقرر لشمول قدرته - سبحانه - على كل شيء .
هذا وقد تكلم العلماء عن معنى السرقة ، وعن شروط إقامة حدها ، وعن طريقة إثباتها .
وعن غير ذلك من المسائل المتعلقة بها ، تكلموا عن كل ذلك باستفاضة في كتب الفقه وفي بعض كتب التفسير .
ونرى أنه لا بأس من ذكر خلاصة لبعض المسائل التي تحدثوا عنها فنقول :
1 - عرف الفقهاء السرقة شرعا بأنها أخذ العاقل البالغ مقدارا مخصوصاً من المال على طريق الاستخفاء من حرز بمكان أو حافظ وبدون شبهة .
2 - وقد ذهب بع الفقهاء من أهل الظاهر إلى أنه متى سرق السارق شيئاً قطعت يده به ، سواء أكان قليلا أم كثيراً ، لعموم هذه الآية .
ولكن جمهور الفقهاء يرون أنه لا تقطع يد السارق إلا إذا بلغ المسروق قدراً معيناً من المال ، وقد تفاوت أنظارهم في هذا القدر .
فالأحناف يرون أنه لا قطع إلا في عشرة دراهم فصاعداً ، أو فيما قيمته عشرة دراهم . ومن حججهم ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا قطع فيما دون عشرة دراهم " .
والمالكية والشافعية يرون أنه لا قطع إلا في ربع دينار أو فيما قيمته ذلك .
ومن حججهم ما روى عن عائشة أنها قالت : " تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً " .
قال القرطبي : وظاهر الآية العموم في كل سارق وليس كذلك لقوله صلى الله عليه وسلم " لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً " فبين أنه إنما أراد بقوله { والسارق والسارقة } بعض السراق دون بعض ، فلا تقطع يد السارق في أقل من ربع دينار ، ويقطع في ربع دينار أو فيما قيمته ربع دينار أو في ثلاثة دراهم . . وقال أحمد : إن سرق ذهبا فربع دينار . وإن سرق غير الذهب والفضة فالقيمة ربع دينار أو ثلاثة دراهم من الورق .
وقال أبو حنيفة وصاحباه والثوري : لا تقطع يد السارق إلا في عشرة دراهم كيلا ، أو في دينار ذهباً عيناً أو وزناً . ولا يطقع حتى يخرج بالمتاع من ملك صاحبه . . ثم قال : وتقطع اليد من الرسغ . ولا خلاف في أن اليمنى هي التي تقطع أولا .
3 - وقد اشترط الفقهاء في المال المسروق الذي تقطع فيه يد السارق أن يكون مالا محرزاً ، أي مصوناً محفوظاً معنيا بحفظه العناية اللائقة بمثله .
قال القرطبي : الحرز هو ما نصب عادة لحفظ أموال الناس ، وهو يختلف في كل شيء بحسب حاله . قال ابن المنذر : ليس في هذا الباب خبر ثابت لا مقال فيه لأهل العلم . وإنما ذلك كالإِجماع من أهل العلم . وحكى عن الحسن وأهل الظاهر أنهم لم يشترطوا الحرز . وفي الموطأ لمالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا قطع في ثمر معلق - أي في ثمر على الأشجار - ولا حريسة جبل - أي ما يحرس بالجبل - فإذا أواه المراح أو الجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن " .
كذلك اشترطوا عدم الشبهة في المال المسروق لقوله صلى الله عليه وسلم : " ادرءوا الحدود بالشبهات ما استطعتم " .
فلا يقطع من سرق مالا له فيه شركة ، أو سرق من مدينة مثل دينه ، ولا يقطع البعد إذا سرق من مال سيده . ولا الأب إذا سرق من مال ابنه وما أشبه ذلك لوجود الشبهة .
كذلك اشترطوا في المسروق الذي يجب فيه الحد أن يكون مالا متقوما . أي : مما يتموَّ له الناس ، ويعدونه لمقاصدهم المختلفة فلا تقطع يد السارق إذا سرق شيئاً تافها ، أو سرق شيئاً مما لا يتمول كالتراب والطين والماء وما يشبه ذلك .
كذلك اشترطوا فيه ألا يكون مما يحرم تناوله أو إستعماله . فإا كان مما يحرم تناوله أو استعماله كالخمر أو الخنزير أو أدوات اللهو والمجون فإنه في تلك الأحوال لا تقطع يد السارق .
وهكذا نرى أن الشريعة الإِسلامية وإن كانت قد شرعت العقوبات الشديدة لزجر العصاة والمفسدين والخائنين . . إلا أنها لا تطبق هذه العقوبات إلا على الذين يستحقونها ، وفي أضيق الحدود ، وبأدق الشروط ، عملا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم " ادرءوا الحدود بالشبهات ما استطعتم " .
ولو أن المسلمين ساروا على هدى شريعة الله لنالوا الأمان والاطمئنان في دنياهم ، والفوز والرضا من الله - تعالى - في أخراهم .
4 - كذلك أخذ أكثر الشافعية والحنابلة من قوله - تعالى - { فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ الله يَتُوبُ عَلَيْهِ } أن التوبة تمنع إقامة الحد .
قالوا : لأن هذه الآية قد اقترنت بقوله - تعالى : { والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا } فكانت مخصصة للعموم في الأمر بالقطع ، وإلا ما اقترنت به ولأنه قد ورد في الأحاديث الصحيحة أن التوبة تجب ما قبلها ومن ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم : " التائب من الذنب كمن لا ذنب له " .
ويرى الأحناف والمالكية أن التوبة لا تسقط الحد ، لأن الأمر بالقطع عام يشمل التائب وغير التائب ، والتوبة المنصوص عليها في هذه الآية هي ما يكون بعد إقامة الحد كما جاءت بذلك الأحاديث النبوية .
قال ابن كثير : قوله - تعالى - { فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ } إلخ . أي : من تاب بعد سرقته وأناب إلى الله إن الله يتوب عليه فيما بينه وبينه . فأما أموال الناس فلابد من ردها إليهم أو رد بدلها . وهذا عند الجمهور .
وقال أبو حنيفة : متى قطع وقد تلفت في يده فإنه لا يرد بدلها .
وقد روى الدارقطني عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بسارق قد سرق شملة فقال " " ما إخاله قد سرق " فقال السارق : بلى يا رسول الله . فقال صلى الله عليه وسلم : " اذهبوا به فاقطعوا ثم احسموه ثم ائتوني به " فقطع فأتى به فقال : تب إلى الله ، فقال : تبت إلى الله . فقال : " تاب الله عليك "
وروى ابن ماجه عن ثعلبة الأنصاري : أن عمر بن سمرة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يا رسول الله ، إني سرقت جملا لبني فلان فطهرني . فأرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : إنا افتقدنا جملا لنا . فأمر به فقطعت يده وهو يقول : الحمد لله الذي طهرني منك . أردت أن تدخلي جسدي النار " .
روى الإِمام أحمد عن عبد الله بن عمرو " أن امرأة سرقت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء بها الذين سرقتهم فقالوا : يا رسول الله : إن هذه المرأة سرقتنا ، قال قومها : فنحن نفديها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - " اقطعوا يدها . فقطعت يدها اليمنى . فقالت المرأة : هل لي من توبة يا رسول الله ؟ قال : نعم . أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك ، فأنزل الله - تعالى - : { فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ الله يَتُوبُ عَلَيْهِ } " الآية .
هذه خلاصة لبعض المسائل والأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآيات الكريمة ، ومن أراد المزيد من ذلك فليرجع إلى ما كتبه الفقهاء في كتبهم ، وإلى ما كتبه بعض المفسرين في تفاسيرهم .
وعلى ذكر الجريمة والعقوبة ، وذكر التوبة والمغفرة ، يعقب السياق القرآني بالمبدأ الكلي الذي تقوم عليه شريعة الجزاء في الدنيا والآخرة . فخالق هذا الكون ومالكه هو صاحب المشيئة العليا فيه ، وصاحب السلطان الكلي في مصائره . هو الذي يقرر مصائره ومصائر من فيه ، كما أنه هو الذي يشرع للناس في حياتهم ، ثم يجزيهم على عملهم في دنياهم وآخرتهم .
( ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء والله على كل شيء قدير ) .
فهي سلطة واحدة . . سلطة الملك . . يصدر عنها التشريع في الدنيا ويصدر عنها الجزاء في الآخرة ، ولا تعدد ولا انقسام ولا انفصام . . ولا يصلح أمر الناس إلا حين تتوحد سلطة التشريع وسلطة الجزاء ، في الدنيا والآخرة سواء . . و ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) . . ( وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله ) . .
ثم قال تعالى : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } أي : هو المالك لجميع ذلك ، الحاكم فيه ، الذي لا مُعَقِّبَ لحكمه ، وهو الفعال لما يريد { يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }{[9832]}
{ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يُعَذّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَاللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . .
يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ألم يعلم هؤلاء القائلون : لَنْ تَمَسّنا النّارُ إلاّ أيّاما مَعْدُودَةً الزّاعمون أنهم أبناء الله وأحباؤه ، أن الله مدبر ما في السموات وما في الأرض ، ومصرّفه وخالقه ، لا يمتنع شيء مما في واحدة منهما مما أراده لأن كلّ ذلك ملكه وإليه أمره ، ولا نسب بينه وبين شيء مما فيها ولا مما في واحدة منهما فيحابيه بسبب قرابته منه فينجيه من عذابه وهو به كافر ولأمره ونهيه مخالف ، أو يدخله النار وهو له مطيع لبعد قرابته منه ولكنه يعذّب من يشاء من خلقه في الدنيا على معصيته بالقتل والخسف والمسخ وغير ذلك من صنوف عذابه ، ويغفر لمن يشاء منهم في الدنيا بالتوبة عليه من كفره ومعصيته ، فينقذه من الهَلَكة وينجيه من العقوبة . وَاللّهُ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يقول : والله على تعذيب من أراد تعذيبه من خلقه على معصيته وغفران ما أراد غفرانه منهم باستنقاذه من الهكة بالتوبة عليه وغير ذلك من الأمور كلها قادر ، لأن الخلق خلقه والملك ملكه والعباد عباده . وخرج قوله : ألَمْ تَعْلَمْ أن اللّهَ لَهُ مُلْكُ السّمَوَاتِ والأرْضِ خطابا له صلى الله عليه وسلم ، والمعنيّ به من ذكرت من فرق بني إسرائيل الذين كانوا بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما حواليها . وقد بينا استعمال العرب نظير ذلك في كلامها بشواهده فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .