المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{سَمَّـٰعُونَ لِلۡكَذِبِ أَكَّـٰلُونَ لِلسُّحۡتِۚ فَإِن جَآءُوكَ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُمۡ أَوۡ أَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡۖ وَإِن تُعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيۡـٔٗاۖ وَإِنۡ حَكَمۡتَ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِٱلۡقِسۡطِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ} (42)

42- هم كثيرو الاستماع للافتراء ، كثيرو الأكل للمال الحرام الذي لا بركة فيه ، كالرشوة والربا وغيرهما ، فإن جاءوك لتحكم بينهم فاحكم بينهم إذا رأيت المصلحة في ذلك ، أو أعرض عنهم ، وإن تعرض عنهم فلن يضروك بأي قدر من الضرر ، لأن الله عاصمك من الناس ، وإن حكمت بينهم فاحكم بالعدل الذي أمر الله به ، إن الله يحب العادلين فيحفظهم ويثيبهم .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{سَمَّـٰعُونَ لِلۡكَذِبِ أَكَّـٰلُونَ لِلسُّحۡتِۚ فَإِن جَآءُوكَ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُمۡ أَوۡ أَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡۖ وَإِن تُعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيۡـٔٗاۖ وَإِنۡ حَكَمۡتَ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِٱلۡقِسۡطِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ} (42)

قوله تعالى : { سماعون للكذب أكالون للسحت } ، قرأ ابن كثير ، و أبو جعفر ، وأهل البصرة ، والكسائي { السحت } بضم الحاء ، والآخرون بسكونها ، وهو الحرام ، وأصله الهلاك والشدة ، قال الله تعالى : { فيسحتكم بعذاب } [ طه : 61 ] ، نزلت في حكام اليهود كعب بن الأشرف وأمثاله ، كانوا يرتشون ويقضون لمن رشاهم . قال الحسن : كان الحاكم منهم إذا أتاه أحد برشوة جعلها في كمه ، فيريها إياه ويتكلم بحاجته ، فيسمع منه ولا ينظر إلى خصمه ، فيسمع الكذب ، ويأكل الرشوة . وعنه أيضاً قال : إنما ذلك في الحكم إذا رشوته ليحق لك باطلاً ، أو يبطل عنك حقك . فأما أن يعطي الرجل الوالي يخاف ظلمه ليدرأ به عن نفسه فلا بأس ، فالسحت هو الرشوة في الحكم على قول الحسن ، ومقاتل ، وقتادة ، والضحاك ، وقال ابن مسعود : هو الرشوة في كل شيء ، قال ابن مسعود : من شفع شفاعة ليرد بها حقا ، ً أو يدفع بها ظلماً ، فأهدي له فقبل فهو سحت ، فقيل له : يا أبا عبد الرحمن ما كنا نرى ذلك إلا الأخذ على الحكم ، فقال : الأخذ على الحكم كفر ، قال الله تعالى : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } [ المائدة :44 ] .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الرحمن بن أبي شريح ، أنا أبو القاسم البغوي ، ثنا علي بن الجعد ، أنا ابن أبي ذئب ، عن الحارث بن عبد الرحمن ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لعن الله الراشي والمرتشي ) .

قال الأخفش : السحت : كل كسب لا يحل .

قوله تعالى : { فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا } ، خير الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم في الحكم بينهم إن شاء حكم ، وإن شاء ترك . واختلفوا في حكم الآية اليوم ، هل للحاكم الخيار في الحكم بين أهل الذمة إذا تحاكموا إلينا ؟ فقال أكثر أهل العلم : هو حكم ثابت ، وليس في سورة المائدة منسوخ ، وحكام المسلمين بالخيار في الحكم بين أهل الكتاب ، إن شاؤوا حكموا وإن شاؤوا لم يحكموا ، وإن حكموا حكموا بحكم الإسلام ، وهو قول النخعي ، والشعبي ، وعطاء ، وقتادة . وقال قوم : يجب على حاكم المسلمين أن يحكم بينهم ، والآية منسوخة ، نسخها قوله تعالى : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } [ المائدة : 49 ] ، وهو قول مجاهد ، وعكرمة ، وروي ذلك عن ابن عباس ، وقال : لم ينسخ من المائدة إلا آيتان ، قوله تعالى : { لا تحلوا شعائر الله } نسخها قوله تعالى : { اقتلوا المشركين } وقوله : { فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } نسخها قوله تعالى : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } فأما إذا تحاكم إلينا مسلم وذمي فيجب علينا الحكم بينهما ، لا يختلف القول فيه ، لأنه لا يجوز للمسلم الانقياد لحكم أهل الذمة .

قوله تعالى : { وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط } ، أي : بالعدل .

قوله تعالى : { إن الله يحب المقسطين } أي العادلين ، روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( المقسطون عند الله على منابر من نور ) .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{سَمَّـٰعُونَ لِلۡكَذِبِ أَكَّـٰلُونَ لِلسُّحۡتِۚ فَإِن جَآءُوكَ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُمۡ أَوۡ أَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡۖ وَإِن تُعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيۡـٔٗاۖ وَإِنۡ حَكَمۡتَ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِٱلۡقِسۡطِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ} (42)

{ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } والسمع هاهنا سمع استجابة ، أي : من قلة دينهم وعقلهم ، أن استجابوا لمن دعاهم إلى القول الكذب .

{ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } أي : المال الحرام ، بما يأخذونه على سفلتهم وعوامهم من المعلومات والرواتب ، التي بغير الحق ، فجمعوا بين اتباع الكذب وأكل الحرام .

{ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } فأنت مخير في ذلك . وليست هذه منسوخة ، فإنه-عند تحاكم هذا الصنف إليه- يخير بين أن يحكم بينهم ، أو يعرض عن الحكم بينهم ، بسبب أنه لا قصد لهم في الحكم الشرعي إلا أن يكون موافقا لأهوائهم ، وعلى هذا فكل مستفت ومتحاكم إلى عالم ، يعلم من حاله أنه إن حكم عليه لم يرض ، لم يجب الحكم ولا الإفتاء لهم ، فإن حكم بينهم وجب أن يحكم بالقسط ، ولهذا قال : { وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } حتى ولو كانوا ظلمة وأعداء ، فلا يمنعك ذلك من العدل في الحكم بينهم .

وفي هذا بيان فضيلة العدل والقسط في الحكم بين الناس ، وأن الله تعالى يحبه .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{سَمَّـٰعُونَ لِلۡكَذِبِ أَكَّـٰلُونَ لِلسُّحۡتِۚ فَإِن جَآءُوكَ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُمۡ أَوۡ أَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡۖ وَإِن تُعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيۡـٔٗاۖ وَإِنۡ حَكَمۡتَ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِٱلۡقِسۡطِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ} (42)

ثم كشف - سبحانه - عن رذيلة أخرى من رذائلهم المتعددة فقال - تعالى - : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } .

والسحت : هو كل ما خبث كسبه وقبح مصدره ، كالتعامل بالربا وأخذ الرشوة وما إلى ذلك من وجوه الكسب الحرام .

وقد بسط الإِمام القرطبي هذا المعنى فقال : والسحت في اللغة أصله الهلاك والشدة .

قال - تعالى - { فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ } أي : - فيهلككم ويستأصلكم بعذاب - ويقال للحالق : أسحت أي استأصل . وقال الفراء : أصل السحت كلب الجوع . يقال رجل مسحوت المعدة أي : أكول ، فكأن بالمسترشي وآكل الحرام من الشره إلى ما يعطي مثل الذي بالمسحوت المعدة من النهم .

وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :

" " كل لحم نبت بالسحت فالنار أولى به " قالوا يا رسول الله وما السحت ؟ قال : " الرشوة في الحكم " " .

وقال بعضهم : من السحت أن يأكل الرجل بجاهه . وذلك بأن يكون له جاه عند السلطان فيسأله إنسان حاجة فلا يقضيها إلا برشوة يأخذها .

والمعنى : أن هؤلاء المنافقين واليهود من صفاتهم - أيضا - أنهم كثيروا السماع للكذب ، وكثيروا الأكل للمال الحرام بجميع صورة وألوانه . ومن كان هذا شأنه فلا تنتظر منه خيرا ، ولا تؤمل فيه رشدا .

وقوله : ( سماعون ) خبر لمبتدأ محذوف أي : هم سماعون . وكرر تأكيدا لما قبله ، وتمهيداً لما بعده وهو قوله : { أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } .

وجاءت هاتان الصفتان - سماعون وأكالون - بصيغة المبالغة ، للإِيذان بأنهم محبون حبا جما لما يأباه الدين والخلق الكريم . فهم يستمرئون سماع الباطل من القول ، كما يستمرئون أكل أموال الناس بالباطل :

إن اليهود بصفة خاصة قد اشتهروا في كل زمان بتقبل السحت ، وقد أرشد الله - تعالى - نبيه إلى ما يجب عليه نحوهم إذا ما تحاكموا إليه فقال : { فَإِن جَآءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فاحكم بَيْنَهُمْ بالقسط إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } .

أي : فإن جاءكم هؤلاء اليهود متحاكمين إليك - يا محمد - في قضاياهم ، فأنت مخير بين أن تحكم بما أراك الله ، وبين أن تتركهم وتهملهم وتعرض عنهم ، وإن تعرض عنهم ، فيما احتكموا فيه إليك قاصدين مضرتك وإيذاءك فلا تبال بشيء من كيدهم ، لأن الله حافظك وناصرك عليهم ، وإن اخترت الحكم في قضاياهم ، فليكن حكمك بالعدل الذي أمرت به ، لأن الله - تعالى - يحب العادلين في أحكامهم .

والفاء في قوله : { فَإِن جَآءُوكَ } للإِفصاح أي : إذا كان هذا حالهم وتلك صفاتهم فإن جاءوك متحاكمين إليك فيما شجر بينهم من خصومات { فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } .

وجاء التعبير بإن المفيدة للشك - مع أنهم قد جاءوا إليه - للإيذان بأنهم كانوا مترددين في التحاكم إليه صلى الله عليه وسلم وأنهم ما ذهبوا إليه ظنا منهم بأنه سيحكم فيهم بما يتفق مع أهوائهم ، فلما حكم فيهم بما هو الحق كبتوا وندموا على مجيئهم إليه .

قال أبو السعود : وقوله : { وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ } بيان لحال الأمرين إثر تخييره صلى الله عليه وسلم بينهما . وتقديم حال الإِعراض ، للمسارعة إلى بيان أنه لا ضرر فيه ، حيث كان مظنة الضرر ، لما أنهم كانوا لا يتحاكمون إليه إلا لطلب الأيسر والأهون عليهم ، فإذا أعرض عنهم وأبى الحكومة بينهم شق ذلك عليهم ؛ فتشتد عداوتهم ومضارتهم له ، فأمنه الله بقوله : { فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً } من الضر .

وكان التعبير بإن أيضا في قوله { وَإِنْ حَكَمْتَ فاحكم بَيْنَهُمْ } للإشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم ليس حريصاً على الحكم بينهم بل هو زاهد فيه ، لأنهم ليسوا طلاب حق وانصاف بل هم يريدون الحكم كما يهوون ويشتهون ، والدليل على ذلك أن التوراة التي بين أيديهم فيها حكم الله ، إلا أنهم جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤملين أن يقضي بينهم بغير ما أنزل الله ، فيشيعوا ذلك بين الناس ، ويعلنوا عدم صدقه في نبوته ، فلما حكم بما أنزل الله خاب أملهم وانقلبوا صاغرين .

وقوله : { إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } تذييل مقرر لما قبله من وجوب الحكم بينهم بالعدل إذا ما اختار أن يقضي بينهم .

يقال : أقسط الحاكم في حكمه ، إذا عدل وقضى بالحق فهو مقسط أي عادل ومنه قوله - تعالى - { إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } .

روى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن . وكلتا يديه يمين . الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا " .

هذا ، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية الكريمة ما يأتي :

1 - أن أكل السحت حرام سواء أكان عن طريق الرشوة أم عن طريق محرم سواها .

ولقد كان السابقون من السلف الصالح يتحرون الحلال . وينفرون من الحرام ، بل ومن الشبهات ، وكانوا يرون أن تأييد الحق ودفع الباطل واجب عليهم ، وأنه لا يصح أن يأخذوا عليه أجرا .

قال ابن جرير : شفع مسروق لرجل في حاجة فأهدى إليه جارية ، فغضب مسروق غضباً شديدا وقال : لو علمت أنك تفعل هذا ما كلمت في حاجتك ، ولا أكلمه فيما بقي من حاجتك . سمعت ابن مسعود يقول : من شفع شفاعة ليرد بها حقا ، أو يرفع بها ظلما ، فأهدى له ، فقيل ، فهو سحت .

وعن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " " كل لحم أنبته السحت فالنار أولى به " قيل يا رسول الله وما السحت ؟ قال صلى الله عليه وسلم : " الرشوة في الحكم " " .

وعن الحكم بن عبد الله قال : قال لي أنس بن مالك : إذا انقلبت إلى أبيك فقل له : إياك والرشوة فإنها سحت . وكان أبوه على شرط المدينة .

قال بعض العلماء : والرشوة قد تكون في الحكم وهي محرمة على الراشي والمرتشي . وقد روى أنه صلى الله عليه وسلم قال : " لعن الراشي والمرتشي والذي يمشي بينهما " لأن الحاكم حينئذ إن حكم له بما هو حقه كان فاسقاً من جهة أنه قبل الرشوة على أن يحكم بما يعرض عليه الحكم به . وإن حكم بالباطل كان فاسقا من جهة أنه أخذ الرشوة . ومن جهة أنه حكم بالباطل .

وقد تكون الرشوة في غير الحكم مثل أن يرشو الحاكم ليدفع ظلمه عنه فهذه الرشوة محرمة على آخذها غير محرمة على معطيها ، فقد روى عن الحسن أنه قال :

" لا بأس أن يدفع الرجل من ماله ما يصون به عرضه " وروى عن جابر بن زيد والشعبي أنهما قالا : " لا بأس بأن يصانع الرجل عن نفسه وماله إذا خاف الظلم " .

وقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم حين قسم غنائم بعض الغزوات وأعطى العطايا الجزيلة ، أعطى العباس بن مرداس أقل من غيره ، فلم يرق ذلك العباس وقال شعرا يتضمن التعجيب من هذا التصرف . فقال صلى الله عليه وسلم " اقطعوا لسانه " فزادوه حتى رضى . فهذا نوع من الرشوة رخص فيه السلف لدفع الظلم عن نفسه يدفعه إلأى من يريد ظلمه أو انتهاك عرضه .

2 - استدل بعض العلماء بقوله - تعالى - : { فَإِن جَآءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مخيرا في الحكم بين أهل الكتاب أو الإِعراض عنهم ، وأن حكم التخيير غير منسوخ ، لأن ظاهر الآية يفيد ذلك .

ويرى فريق من العلماء أن هذا التخيير قد نسخ بقوله - تعالى - بعد ذلك { وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله } قالوا : إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان أولا مخيرا ثم أمر بعد ذلك بإجراء الأحكام عليهم .

وقد رد القائلون بثبوت التخيير على القائلين بالنسخ بأن التخيير ثابت بهذه الآية .

أما قوله : { وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله } فهو بيان لكيفية الحكم عند اختياره له .

ويرى فريق ثالث من العلماء : أن التخيير ورد في المعاهدين الذين ليسوا من أهل الذمة كبني النضير وبني قريظة ، فهؤلاء كان الرسول صلى الله عليه وسلم مخيرا بين أن يحكم بينهم أو أن يعرض عنهم :

وقوله - تعالى - { وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله } ورد في أهل الذمة الذين لهم ما لنا وعليهم ما علينا . وعلى هذا فلا نسخ في الآية .

قال الآلوسي : قال أصحابنا : أهل الذمة محمولون على أحكام الإِسلام في البيوع ولمواريث وسائر العقود ، إلا في بيع الخمر والخنزير ، فإنهم يقرون عليه ، ويمنعون من الزنا كالمسلمين ، ولا يرجمون لأنهم غير محصنين ، واختلف في مناكحتهم ، فقال أبو حنيفة : يقرون عليها ، وخالفه - في بعض ذلك . محمد وزفر . وليس لنا عليهم اعتراض قبل التراضي بأحكامنا ؛ فمتى تراضوا بها وترافعوا إلينا وجب إجراء الأحكام عليهم ، وتمام التفصيل في كتب الفروع .

3 - أخذا العلماء من هذه الآية - أيضاً - أن الحاكم ينفذ حكمه فيما حكم فيه لأن اليهود حكموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض قضاياهم ، فحكم فيهم بما أنزل الله ، ونفذ هذا الحكم عليهم .

قال بعضهم : إنه صلى الله عليه وسلم قد حكم بينهم بشريعة موسى - عليه السلام - ولكن هذا الحكم كان قبل أن تنزل عليه الحدود .

أما الآن وقد أكمل الله الدين ، وتقررت الشريعة ، فلا يجوز لأي حاكم أن يحكم بغير الأحكام الإِسلامية لا فرق بين المسلمين وغيرهم .

هذا ، وبعد أن وصف الله - تعالى - اليهود وأشباهم بجملة من الصفات القبيحة ، وخير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أن يحكم فيهم بشرع الله وبين أن يعرض عنهم .

بعد كل ذلك أنكر عليهم مسالكهم الخبيثة ، وعجب كل عاقل من حالهم فقال - تعالى - : { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التوراة فِيهَا حُكْمُ الله ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذلك وَمَآ أولئك بالمؤمنين }

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{سَمَّـٰعُونَ لِلۡكَذِبِ أَكَّـٰلُونَ لِلسُّحۡتِۚ فَإِن جَآءُوكَ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُمۡ أَوۡ أَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡۖ وَإِن تُعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيۡـٔٗاۖ وَإِنۡ حَكَمۡتَ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِٱلۡقِسۡطِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ} (42)

41

ثم يمضي في بيان حال القوم ، وما انتهوا إليه من فساد في الخلق والسلوك ، قبل أن يبين لرسول الله [ ص ] كيف يتعامل معهم إذا جاءوا إليه متحاكمين :

( سماعون للكذب ، أكالون للسحت . فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم . وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً . وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط ، إن الله يحب المقسطين ) . .

كرر أنهم سماعون للكذب . مما يشي بأن هذه أصبحت خصله لهم . . تهش نفوسهم لسماع الكذب والباطل ، وتنقبض لسماع لحق والصدق . . وهذه طبيعة القلوب حين تفسد ، وعادة الأرواح حين تنطمس . . ما أحب كلمة الباطل والزور في المجتمعات المنحرفه ، وما أثقل كلمة الحق والصدق في هذه المجتمعات . . وما أروج الباطل في هذه الآونه وما أشد بوار الحق في هذه الفترات الملعونه !

وهؤلاء : سماعون للكذب . أكالون للسحت . . والسحت كل مال حرام . . والربا والرشوه وثمن الكلمه والفتوى ! في مقدمة ما كانوا يأكلون ، وفي مقدمة ما تأكله المجتمعات التي تنحرف عن منهج الله في كل زمان ! وسمي الحرام سحتاً لأنه يقطع البركه ويمحقها . وما اشد أنقطاع البركه وزوالها من المجتمعات المنحرفه . كما نرى ذلك بأعيننا في كل مجتمع شارد عن منهج الله وشريعة الله .

ويجعل الله الأمر للرسول بالخيار في أمرهم إذا جاءوه يطلبون حكمه - فإن شاء أعرض عنهم - ولن يضروه شيئاً - وإن شاء حكم بينهم . فإذا اختار أن يحكم حكم بينهم بالقسط ، غير متأثر بأهوائهم ، وغير متأثر كذلك بمسارعتهم في الكفر ومؤامراتهم ومناوراتهم . .

( إن الله يحب المقسطين ) . .

والرسول [ ص ] والحاكم المسلم ، والقاضي المسلم ، إنما يتعامل مع الله في هذا الشأن ؛ وإنما يقوم بالقسط لله . لأن الله يحب المقسطين . فإذا ظلم الناس وإذا خانوا ، وإذا انحرفوا ، فالعدل فوق التأثر بكل ما يصدر منهم . لإنه ليس عدلاً لهم ؛ وإنما هو لله . . وهذا هو الضمان الأكيد في شرع الإسلام وقضاء الإسلام ، في كل مكان وفي كل زمان .

وهذا التخيير في أمر هؤلاء اليهود يدل على نزول هذا الحكم في وقت مبكر . إذ أنه بعد ذلك أصبح الحكم والتقاضي لشريعة الإسلام حتمياً . فدار الإسلام لا تطبق فيها إلا شريعة الله . وأهلها جميعاً ملزمون بالتحاكم إلى هذه الشريعه . مع اعتبار المبدأ الإسلامي الخاص بأهل الكتاب في المجتمع المسلم في دار الإسلام ؛ وهوألا يجبروا إلا على ما هو وارد في شريعتهم من الأحكام ؛ وعلى ما يختص بالنظام العام . فيباح لهم ما هو مباح في شرائعهم ، كامتلاك الخنزير وأكله ، وتملك الخمر وشربه دون بيعه للمسلم . ويحرم عليهم التعامل الربوي لأنه محرم عندهم . وتوقع عليهم حدود الزنا والسرقه لأنها وارده في كتابهم وهكذا . كما توقع عليهم عقوبات الخروج على النظام العام والإفساد في الأرض كالمسلمين سواء ، لأن هذا ضروري لأمن دار الإسلام وأهلها جميعاً : مسلمين وغير مسلمين . فلا يتسامح فيها مع أحد من أهل دار الإسلام . . .

وفي تلك الفترة التي كان الحكم فيها على التخيير ، كانوا يأتون ببعض قضاياهم إلى رسول الله [ ص ] ؛ مثال ذلك ما رواه مالك ، عن نافع ، عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - : " إن اليهود جاءوا إلى رسول الله [ ص ] فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا . فقال لهم رسول الله [ ص ] ما تجدون في التوراه في شأن الرجم ؟ فقالوا : نفضحهم ويجلدون . قال عبدالله بن سلام : كذبتم . إن فيها الرجم . فأتوا بالتوراة فنشروها . فوضع أحدهم يده على آيه الرجم ، فقرأ ما قبلها وما بعدها . فقال عبدالله بن سلام : ارفع يدك . فرفع يده فإذا آية الرجم ! . فقالوا : صدق يا محمد فيها آية الرجم فأمر بهما رسول الله [ ص ] فرجما . فرأيت الرجل يحني على المرأه يقيها الحجارة " . .

[ أخرجه الشيخان واللفظ للبخاري ]

ومثال ذلك ما رواه الإمام أحمد - بإسناده - عن ابن عباس قال :

" أنزلها الله في الطائفتين من اليهود ، وكانت إحداهما قد قهرت الأخرى في الجاهليه ، حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقا ، وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق . فكانوا على ذلك حتى قدم النبي [ ص ] فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلا ، فأرسلت العزيزة إلى الذليلة أن ابعثوا لنا بمائة وسق فقالت الذليلة : وهل كان في حيين دينهما واحد ، ونسبهما واحد ، وبلدهما واحد ، دية بعضهم نصف دية بعض ؟ إنما أعطيناكم هذا ضميا منكم لنا ، وفرقا منكم . فأما إذ قدم محمد فلا نعطيكم ! فكادت الحرب تهيج بينهما . ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله [ ص ] حكما بينهم . ثم ذكرت العزيزة ، فقالت : والله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم ، ولقد صدقوا ، ما أعطونا هذا إلا ضيما منا وقهرا لهم ! فدسوا إلى محمد من يخبر لكم رأيه . . إن أعطاكم ما تريدون حكمتموه ، وإن لم يعطكم حذرتم فلم تحكموه ! فدسوا إلى رسول الله [ ص ] ناسا من المنافقين ليخبروا لهم رأي رسول الله [ ص ] فلما جاءوا رسول الله [ ص ] أخبر الله رسوله [ ص ] بأمرهم كله وما أرادوا . فأنزل الله تعالى : ( يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ) ، إلى قوله : ( الفاسقون ) . . ففيهم والله أنزل ، وإياهم عنى الله عز وجل . . [ أخرجه أبو داود من حديث أبى الزناد عن أبيه ] . . وفي رواية لابن جرير عين فيها " العزيزة " وهي بنو النضير " والذليلة " وهي بنو قريظة . . مما يدل - كما قلنا - على أن هذه الآيات نزلت مبكرة قبل إجلائهم والتنكيل بهم . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{سَمَّـٰعُونَ لِلۡكَذِبِ أَكَّـٰلُونَ لِلسُّحۡتِۚ فَإِن جَآءُوكَ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُمۡ أَوۡ أَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡۖ وَإِن تُعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيۡـٔٗاۖ وَإِنۡ حَكَمۡتَ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِٱلۡقِسۡطِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ} (42)

41

{ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } أي : الباطل { أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } أي : الحرام ، وهو الرشوة كما قاله ابن مسعود وغير واحد{[9861]} أي : ومن كانت هذه صفته كيف يطهر الله قلبه ؟ وأنى يستجيب له .

ثم قال لنبيه : { فَإِنْ جَاءُوكَ } أي : يتحاكمون إليك { فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا } أي : فلا عليك ألا تحكم بينهم ؛ لأنهم لا يقصدون بتحاكمهم إليك اتباع الحق ، بل ما وافق{[9862]} هواهم .

قال ابن عباس ، ومجاهد ، وعِكْرِمَة ، والحسن ، وقتادة ، والسُّدِّي ، وزيد بن أسلم ، وعطاء الخراساني : هي منسوخة بقوله : { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ } [ المائدة : 49 ] ، { وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ } أي : بالحق والعدل وإن كانوا ظلمة خارجين عن طريق{[9863]} العدل { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }

/خ44


[9861]:في ر: "ذلك".
[9862]:في أ: "ما يوافق".
[9863]:في ر: "الطريق".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{سَمَّـٰعُونَ لِلۡكَذِبِ أَكَّـٰلُونَ لِلسُّحۡتِۚ فَإِن جَآءُوكَ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُمۡ أَوۡ أَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡۖ وَإِن تُعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيۡـٔٗاۖ وَإِنۡ حَكَمۡتَ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِٱلۡقِسۡطِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ} (42)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكّالُونَ لِلسّحْتِ فَإِن جَآءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ } . .

يقول تعالى ذكره : هؤلاء اليهود الذين وصفت لك يا محمد كاذب ، ليس بنبيّ ، وقِيل بعضهم : إن حكم الزاني المحصَن في التوراة الجلد والتحميم ، وغير ذلك من الأباطيل والإفك ، ويقبلون الرشا ، فيأكلونها على كذبهم على الله وفريتهم عليه . كما :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : حدثنا أبو عقيل ، قال : سمعت الحسن يقول في قوله : سَمّاعُونَ للكَذِبِ أكّالُونَ للسّحْتِ قال : تلك الحكام سمعوا كِذْبةً ، وأكلوا رِشْوَةً .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : سَمّاعُونَ للكَذِبِ أكّالُونَ للسّحْتِ قال : كان هذا في حكام اليهود بين أيديكم ، كانوا يسمعون الكذب ويقبلون الرشا .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : أكّالُونَ للسّحْتِ قال : الرشوة في الحكم وهم يهود .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، وحدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبي وإسحاق الأزرق ، وحدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن زرّ ، عن عبد الله : أكّالُونَ للسّحْتِ قال : السحت : الرشوة .

حدثنا سفيان بن وكيع وواصل بن عبد الأعلى ، قالا : حدثنا ابن فضيل ، عن الأعمش ، عن سلمة بن كهيل ، عن سالم بن أبي الجعد ، قال : قيل لعبد الله : ما السحت ؟ قال : الرشوة . قالوا : في الحكم ؟ قال : ذاك الكفر .

حدثنا سفيان ، قال : حدثنا غندر ووهب بن جرير ، عن شعبة ، عن منصور ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن مسروق ، عن عبد الله ، قال : السحت : الرشوة .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن حريث ، عن عامر ، عن مسروق ، قال : قلنا لعبد الله : ما كنا نرى السحت إلا الرشوة في الحكم قال عبد الله : ذاك الكفر .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن عمار الدهني ، عن سالم بن أبي الجعد عن مسروق ، قال : سألت عبد الله عن السحت ، فقال : الرجل يطلب الحاجة فيقضيها ، فيهدي إليه فيقبلها .

حدثنا سوار ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا شعبة ، عن منصور وسليمان الأعمش ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن مسروق ، عن عبد الله أنه قال : السحت : الرشا .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا المحاربيّ ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن زِرّ ، عن عبد الله : السّحْت ، قال : الرشوة في الدين .

حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن خيثمة ، قال : قال عمر : ما كان من السحت : الرشا ، ومهر الزانية .

حدثني سفيان ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، قال : السحت : الرشوة .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قوله : أكّالُونَ للسّحْتِ قال : الرشا .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : ثني أبي ، عن طلحة ، عن أبي هريرة ، قال : مهر البغيّ سُحت ، وعَسْبُ الفحل سُحْت ، وكسب الحَجّام سُحْت ، وثمن الكلب سُحْت .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : السحت : الرشوة في الحكم .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو غسان ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن حكيم بن جبير ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن مسروق ، قال : سألت ابن مسعود عن السحت ، قال : الرشا ، فقلت : في الحكم ؟ قال : ذاك الكفر .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : أكّالُونَ للسّحْتِ يقول : للرشا .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشم ، قال : أخبرنا عبد الملك بن أبي سليمان ، عن سلمة بن كهيل ، عن مسروق ، عن علقمة : أنهما سألا ابن مسعود عن الرشوة ، فقال : هي السحت ، قالا في الحكم ؟ قال : ذاك الكفر ، ثم تلا هذه الاَية : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن المسعودي ، عن بكير بن أبي بكير ، عن مسلم بن صبيح ، قال : شفع مسروق لرجل في حاجة ، فأهدى له جارية ، فغضب غضبا شديدا وقال : لو علمت أنك تفعل هذا ما كلمت في حاجتك ولا أكلم فيما بقي من حاجتك ، سمعت ابن مسعود يقول : من شفع شفاعة ليردّ بها حقا أو يرفع بها ظلما ، فأُهدي له فقبل ، فهو سُحْتٌ ، فقيل له : يا أبا عبد الرحمن ما كنا نرى ذلك إلا الأخذ على الحكم قال : الأخذ على الحكم كفر .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثنيأبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : سَمّاعُونَ للكَذِبِ أكّالُونَ للسّحْتِ وذلك أنهم أخذوا الرشوة في الحكم وقضوا بالكذب .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا عبيدة ، عن عمار ، عن مسلم بن صبيح ، عن مسروق ، قال : سألت ابن مسعود عن السحت ، أهو الرشا في الحكم ؟ فقال : لا ، من لم يَحْكم بما أنزل الله فهو كافر ، ومن لم يحكم بما أنزل الله فهو ظالم ، ومن لم يحكم بما أنزل الله فهو فاسق ، ولكن السحت يستعينك الرجل على المَظْلِمة فتعينه عليها ، فَيُهدي لك الهدية فتقبلها .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن يحيى بن سعيد ، عن عبد الله بن هبيرة السبئي ، قال : من السحت ثلاثة : مهر البغيّ ، والرشوة في الحكم ، وما كان يُعْطَى الكهان في الجاهلية .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا ابن مطيع ، عن حماد بن سلمة ، عن عطاء الخراساني ، عن ضَمْرة ، عن عليّ بن أبي طالب ، أنه قال في كسب الحجام ، ومهر البغيّ ، وثمن الكلب ، والاستجعال في القضية ، وحلوان الكاهن ، وعَسْب الفحل ، والرشوة في الحكم ، وثمن الخمر ، وثمن المتية : من السّحْت .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : أكّالُونَ للسّحْتِ قال : الرشوة في الحكم .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عبد الرحمن بن أبي الموالى ، عن عمر بن حمزة بن عبد الله بن عمر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : «كُلّ لْحَمٍ أَنْبَتَهُ السّحْتُ فالنّارُ أوْلَى بِهِ » . قيل : يا رسول الله ، وما السحت ؟ قال : «الرّشْوَةُ فِي الحُكْمِ » .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عبد الجبار بن عمر ، عن الحكم بن عبد الله ، قال : قال لي أنس بن مالك ، إذا انقلبتْ إلى أبيك فقل له : إياك والرّشوة فإنها سحت وكان أبوه على شُرَطَ المدينة .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن سالم ، عن مسروق ، عن عبد الله ، قال : الرشوة سحت . قال مسروق : فقلنا لعبد الله : أفي الحكم ؟ قال : لا ، ثم قرأ : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَل اللّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ .

وأصل السحت : كلَب الجوع ، يقال منه : فلان مسحوت المعدة : إذا كان أكولاً لا يُلَفى أبدا إلا جائعا . وإنما قيل للرّشوة السحت ، تشيبها بذلك كأن بالمسترشِي من الشره إلى أخذ ما يعطاه من ذلك مثل الذي بالمسحوت المعدة من الشره إلى الطعام ، يقال منه : سَحتَه وأسْحَتَه ، لغتان محكيتان عن العرب ، ومنه قول الفرزدق بن غالب :

وَعَضّ زَمانٍ يا ابْنَ مَرْوَانَ لَمْ يَدَعْ ***منَ المَالِ إلا مُسَحَتا أوْ مُجَلّفُ

يعني بالمسحت : الذي قد أستأصله هلاكا بأكله إياه وإفساده ، ومنه قوله تعالى : فَيُسْحِتَكُمْ بعَذَابِ وتقول العرب للحالق : اسحت الشعر : أي استأصله .

القول في تأويل قوله تعالى : فإنْ جاءُوكَ فاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أوْ أعْرِض عَنْهُمْ وَإنْ تُعرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرّوكَ شَيْئا وَإنْ حَكَمْتَ فاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بالقِسْطِ إنّ اللّهَ يُحَبّ المُقسِطينَ .

يعني تعالى ذكره بقوله : فإنْ جاءُوكَ فاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أوْ أعْرِضْ عَنْهُمْ : إن جاء هؤلاء القوم الاَخرون الذين لم يأتوك بعد ، وهم قوم المرأة البغية ، محتكمين إليك ، فاحكم بينهم إن شئت بالحقّ الذي جعله الله حكما له ، فيمن فعَل فِعْل المرأة البغية منهم ، أو أعرض عنهم ، فدع الحكم بينهم إن شئت والخيار إليك في ذلك .

وبمثل الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : أوْ أعْرِضْ عَنْهُمْ يهودُ ، زنى رجل منهم له نسب حقير فرجموه ، ثم زنى منهم شريف فحمّموه ، ثم طافوا به ، ثم استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليوافقهم . قال : فأفتاهم فيه بالرجم ، فأنكروه ، فأمرهم أن يدعوا أحبارهم ورهبانهم ، فناشدهم بالله أيجدونه في التوراة ، فكتموه إلا رجلاً من أصغرهم أعور ، فقال : كذَبوك يا رسول الله ، إنه لفي التوراة

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني الليث ، عن ابن شهاب : أن الاَية التي في سورة المائدة : فإنْ جاءُوكَ فاحْكُمْ بَيْنَهُمْ كانت في شأن الرجم .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : إنهم أتوه يعني اليهود في امرأة منهم زنت يسألونه عن عقوبتها ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كَيْفَ تَجِدُونَهُ عِنْدَكُمْ مَكْتُوبا فِي التّوْرَاةِ ؟ » فقالوا نؤمر برجم الزانية . فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرجمت ، وقد قال الله تبارك وتعالى : وَإنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرّوكَ شَيْئا وَإنْ حَكَمْتَ فاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بالقِسْطِ إنّ اللّهَ يُحبّ المُقْسِطِينَ .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير ، قوله : فإنْ جاءُوكَ فاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أوْ أعْرِضْ عَنْهُمْ قال : كانوا يَحدّون في الزنا ، إلى أن زنى شابّ منهم ذو شرف ، فقال بعضهم لبعض : لا يدعُكم قومه ترجمونه ، ولكن اجلدوه ومثّلوا به فجلدوه وحملوه على إكاف حمار ، وجعلوا وجهه مستقبل ذنب الحمار ، إلى أن زنى آخرُ وضيع ليس له شرف فقالوا : ارجموه ثم قالوا : فكيف لم ترجموا الذي قبله ؟ ولكن مثل ما صنعتم به فاصنعوا بهذا . فلما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قالوا : سلوه ، لعلكم تجدون عنده رخصة فنزلت : فإنْ جاءُوكَ فاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أوْ أعْرِضْ عَنْهُمْ . . . إلى قوله : إنّ اللّهَ يُحبّ المُقْسِطِينَ .

وقال آخرون : بل نزلت هذه الاَية في قتيل قتل في يهود منهم قتله بعضهم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا هناد بن السريّ وأبو كريب ، قالا : حدثنا يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق ، قال : ثني داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أن الاَيات في المائدة ، قوله : فإنْ جاءُوكَ فاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أوْ أعْرِضْ عَنْهُمْ . . . إلى قوله : المُقْسِطِينَ إنما نزلت في الدية في بني النضير وبني قريظة ، وذلك أن قتلى بني النضير كان لهم شرف تؤدّي الدية كاملة ، وإن قريظة كانوا يؤدّون نصف الدية . فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله ذلك فيهم ، فحملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحقّ في ذلك ، فجعل الدية في ذاك سواء . والله أعلم أيّ ذلك كان .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن عليّ بن صالح ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كانت قريظة والنضير ، وكان النضير أشرف من قريظة ، فكان إذا قتل رجل من قريظة رجلاً من النضير قُتِل به ، وإذا قَتل رجل من النضير رجلاً من قريظة أدّى مئة وَسْق تمر . فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قَتل رجل من النضير رجلاً من قريظة ، فقالوا : ادفعوه إلينا فقالوا : بيننا وبينكم رسول الله صلى الله عليه وسلم . فنزلت : وَإنْ حَكَمْتَ فاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بالقِسْطِ .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : كان في حكم حيّ بن أخطب للنضري ديتان ، والقُرَظي دية ، لأنه كان من النضير قال : وأخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بما في التوراة ، قال : وكتَبَنْا عَلَيْهِمْ فِيها أنّ النّفْسَ بالنّفْسِ . . . إلى آخر الاَية . قال : فلما رأت ذلك قُريظة ، لم يرضوا بحكم بن أخطب ، فقالوا : نتحاكم إلى محمد فقال الله تبارك وتعالى : فإنْ جاءُوكَ فاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أوْ أعْرِضْ عَنْهُمْ فخيره ، وكَيْفَ يُحَكّمُونَكَ وَعنْدَهُمُ التّوْرَاةُ فِيها حُكْم اللّهِ . . . الاَية كلها . وكان الشريف إذا زنى بالدنيئة رجموها هي وحمّموا وجه الشريف ، وحملوه على البعير ، أو جعلوا وجهه من قِبَل ذنب البعير . وإذا زنى الدنيء بالشريفة رجموه ، وفعلوا بها ذلك . فتحاكموا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فرجمها . قال : وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لهم : «مَنْ أعْلَمُكُمْ بالتّوْرَاةِ ؟ » قالوا : فلان الأعور . فأرسل إليه ، فأتاه ، فقال : «أنْتَ أعْلَمُهُمْ بالتّوْرَاةِ ؟ » قال : كذاك تزعم يهود ، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : «أُنْشُدُكَ باللّهِ وَبالتّوْرَاةِ التي أنْزَلهَا على مُوسَى يَوْمَ طُورِسِيناءَ ما تَجِدُ فِي التّوْرَاةِ فِي الزّانِيَيْنِ ؟ » فقال : يا أبا القاسم يرجمون الدنيئة ، ويحملون الشريف على بعير ، ويحممون وجهه ، ويجعلون وجهه من قِبَل ذَنَب البعير ، ويرجمون الدنيء إذا زنى بالشريفة ، ويفعلون بها هي ذلك . فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : «أَنْشُدُكَ باللّهِ وَبالتّوْرَاةِ التي أنْزَلهَا عَلى مُوسَى يَوْمَ طُورِسِيناءَ ما تَجِدُ فِي التّوْرَاةِ ؟ » فجعل يروغ والنبيّ صلى الله عليه وسلم يَنْشُدُه بالله وبالتوراة التي أنزلها على موسى يوم طورسيناء ، حتى قال : يا أبا القاسم الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «فَهُوَ ذَاكَ ، اذْهَبُوا بِهِما فارْجُمُوهُما » . قال عبد الله : فكنت فيمن رجمهما ، فما زال يُجْنىءُ عليها ويقيها الحجارة بنفسه حتى مات .

ثم اختلف أهل التأويل في حكم هذه الاَية هل هو ثابت اليوم وهل للحكام من الخيار في الحكم والنظر بين أهل الذمة والعهد إذا احتكموا إليهم ، مثل الذي جعل لنبيه صلى الله عليه وسلم ، في هذه الاَية ، أم ذلك منسوخ ؟ فقال بعضهم : ذلك ثابت اليوم لم ينسخه شيء ، وللحكام من الخيار في كل دهر بهذه الاَية مثل ما جعله لرسوله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن عمرو بن أبي قيس ، عن مغيرة ، عن إبراهيم والشعبي : إن رُفع إليك أحد من المشركين في قضاء ، فإن شئت فاحكم بينهم بما أنزل الله ، وإن شئت أعرض عنهم .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن الشعبي وإبراهيم ، قالا : إذا أتاك المشركون فحكّموك فاحكم بينهم ، أو أعرض عنهم ، وإن حكمت فاحكم بحكم المسلمين ولا تعْدُه إلى غيره .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، وحدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم والشعبي : فإنْ جاءُوكَ فاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أوْ أعْرِضْ عَنْهُمْ قال : إن شاء حكم ، وإن شاء لم يحكم .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، قال : إن شاء حكم وإن شاء لم يحكم .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن محمد بن سالم ، عن الشعبيّ ، قال : إذا أتاك أهل الكتاب بينهم أمر ، فاحكم بينهم بحكم المسلمين ، أو خلّ عنهم وأهل دينهم يحكمون فيهم إلا في سرقة أو قتل .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الروزاق ، عن ابن جريج ، قال : قال لي عطاء : نحن مخيرون ، إن شئنا حكمنا بين أهل الكتاب ، وإن شئنا أعرضنا فلم نحكم بينهم ، وإن حكمنا بينهم حكمنا بيننا أو نتركهم وحكمهم بينهم . قال ابن جريج : وقال مثل ذلك عمرو بن شعيب ، وذلك قوله : فاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أوْ أعْرِضْ عَنْهُمْ .

حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا مغيرة ، وحدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم والشعبي في قوله : فإنْ جاءُوكَ فاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أوْ أعْرِضْ عَنْهُمْ قالا : إذا جاءوا إلى حاكم المسلمين ، فإن شاء حكم بينهم وإن شاء أعرض عنهم ، وإن حكم بينهم حكم بينهم بما في كتاب الله .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فإنْ جاءُوكَ فاحْكُمْ بَيْنَهُمْ يقول : إن جاءوك فاحكم بينهم بما أنزل الله ، أو أعرض عنهم . فجعل الله له في ذلك رخصة ، إن شاء حكم بينهم ، وإن شاء أعرض عنهم .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم والشعبي ، قالا : إذا أتاك المشركون فحكموك فيما بينهم ، فاحكم بينهم بحكم المسلمين ولا تَعْدُه إلى غيره ، أو أعرض عنهم وخلّهم وأهلَ دينهم .

وقال آخرون : بل التخيير مسنوخ ، وعلى الحاكم إذا احتكم إليه أهل الذمة أن يحكم بينهم بالحقّ ، وليس له ترك النظر بينهم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسين بن واقد ، عن يزيد النحويّ ، عن عكرمة والحسن البصريّ : فإنْ جاءُوكَ فاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أوْ أعْرِضْ عَنْهُمْ نسخت بقوله : وأنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن السديّ ، قال : سمعت عكرمة يقول : نسختها وأنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ .

حدثنا ابن وكيع ومحمد بن بشار ، قالا : حدثنا ابن مهدي ، عن سفيان ، عن السديّ ، قال : سمعت عكرمة يقول : نسختها : وأنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، عن سفيان بن حسين ، عن الحكم ، عن مجاهد : لم ينسخ من المائدة إلا هاتان الاَيتان : فإنْ جاءُوكَ فاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أوْ أعْرِضْ عَنْهُمْ نسختها : وأنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ وَلا تَتّبعْ أهْوَاءَهُمْ وقوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلّوا شَعائِرَ اللّهِ وَلا الشّهْرَ الحَرَامَ وَلا الهَدْىَ وَلا القَلائِدَ نسختها : اقْتُلُوا المُشْرِكينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن منصور ، عن الحكم ، عن مجاهد قال : نسختها : وأنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا حجاج بن منهال ، قال : حدثنا همام ، عن قتادة ، قوله : فإنْ جاءُوكَ فاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أوْ أعْرِضْ عَنْهُمْ يعني الهيود . فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم ، ورخص له أن يعرض عنهم إن شاء ، ثم أنزل الله تعالى الاَية التي بعدها : وأنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ . . . إلى قوله : وأنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ وَلا تَتّبِعْ أهْوَاءَهُمْ فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم بما أنزل الله بعد ما رخص له إن شاء أن يعرض عنهم .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن عبد الكريم الجزري : أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عديّ بن عديّ : إذا جاءك أهل الكتاب فاحكم بينهم .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن السديّ ، عن عكرمة قال : نسخت بقوله : وأنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن الزهري ، قوله : فإنْ جاءُوكَ فاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أوْ أعْرِضْ عَنْهُمْ قال : مضت السنة أن يُرَدّوا في حقوقهم ومواريثهم إلى أهل دِينهم ، إلا أن يأتوا راغبين في حدّ يُحكم بينهم فيه بكتاب الله .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : لما نزلت : فاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أوْ أعْرِضْ عَنْهُمْ كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إن شاء حكم بينهم ، وإن شاء أعرض عنهم . ثم نسخها فقال : وأنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ وَلا تَتّبِعْ أهْوَاءَهُمْ وكان مجبورا على أن يحكم بينهم .

حدثنا محمد بن عمار ، قال : حدثنا سعيد بن سليمان ، قال : حدثنا عباد بن العوّام ، عن سفيان بن حسين ، عن الحكم ، عن مجاهد ، قال : آيتان نسختا من هذه السورة ، يعني المائدة ، آية القلائد ، وقوله : فاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أوْ أعْرِضْ عَنْهُمْ ، فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم مخيرا ، إن شاء حكم ، وإن شاء أعرض عنهم ، فردّهم إلى أن يحكم بينهم بما في كتابنا .

وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال : إن حكم هذه الاَية ثابت لم ينسخ ، وإن للحكام من الخيار في الحكم بين أهل العهد إذا ارتفعوا إليهم فاحتكموا وترك الحكم بينهم والنظر مثل الذي جعله الله لرسوله صلى الله عليه وسلم من ذلك في هذه الاَية .

وإنما قلنا : ذلك أولاهما بالصواب ، لأن القائلين أن حكم هذه الاَية منسوخ زعموا أنه نسخ بقوله : وأنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ ، وقد دللنا في كتابنا : «كتاب البيان عن أصول الأحكام » أن النسخ لا يكون نسخا إلا ما كان نفيا لحكم غيره بكلّ معانيه ، حتى لا يجوز اجتماع الحكم بالأمرين جميعا على صحته بوجه من الوجوه ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . وإذ كان ذلك كذلك ، وكان غير مستحيل في الكلام أن يقال : وأن احكم بينهم بما أنزل الله ، ومعناه : وأن احكم بينهم بما أنزل الله إذ حكمت بينهم باخيتارك الحكم بينهم إذا اخترت ذلك ولم تختر الإعراض عنهم ، إذ كان قد تقدم إعلام المقول له ذلك من قائله أن له الخيار في الحكم وترك الحكم كان معلوما بذلك أن لا دلالة في قوله : وأنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ أنه ناسخ قوله : فإنْ جاءُوكَ فاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أوْ أعْرِضْ عَنْهُمْ وَإنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرّوكَ شَيْئا وَإنْ حَكَمْتَ فاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بالقِسْطِ لما وصفنا من احتمال ذلك ما بينا ، بل هو دليل على مثل الذي دلّ عليه قوله : وَإنْ حَكَمْتَ فاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بالقِسْطِ . وإذا لم يكن في ظاهر التنزيل دليل على نسخ إحدى الاَيتين الأخرى ، ولا نفي أحد الأمرين حكمَ الاَخر ، ولم يكن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر يصحّ بأن أحدهما ناسخ صاحبه ، ولا من المسلمين على ذلك إجماع صحّ ما قلنا من أن كلا الأمرين يؤيد أحدهما صاحبه ويوافق حكمه حكمه ولا نسخ في أحدهما للاَخر .

وأما قوله : وَإنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرّوكَ شَيْئا فإن معناه : وإن تعرض يا محمد عن المحتكمين إليك من أهل الكتاب فتدع النظر بينهم فيما احتكموا فيه إليك ، فلا تحكم فيه بينهم ، فلن يضرّوك شيئا ، يقول : فلن يقدروا لك على ضرّ في دين ولا دنيا ، فدع النظر بينهم إذا اخترت ترك النظر بينهم .

وأما قوله : وَإنْ حَكَمْتَ فاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بالقِسْطِ فإن معناه : وإن اخترت الحكم والنظر يا محمد بين أهل العهد إذا أتوك ، فاحكم بينهم بالقسط ، وهو العدل ، وذلك هو الحكم بما جعله الله حكما في مثله على جميع خلقه من أمة نبينا صلى الله عليه وسلم .

وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم والشعبي : وَإنْ حَكَمْتَ فاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بالقِسْطِ قالا : إن حكم بينهم حكم بما في كتاب الله .

حدثنا سفيان ، قال : حدثنا يزيد بن هاون ، عن العوّام بن حوشب ، عن إبراهيم : وَإنْ حَكَمْتَ فاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بالقِسْطِ قال : أمِر أن يحكم فيهم بالرجم .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن العوّام ، عن إبراهيم التيمي في قوله : وَإنْ حَكَمْتَ فاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بالقِسْطِ قال : بالرجم .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : بالقِسْطِ : بالعدل .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا هشيم ، عن العوّام بن حوشب ، عن إبراهيم التيمي في قوله : فاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بالقِسْطِ قال : أمر أن يحكم بينهم بالرجم .

وأما قوله : إنّ اللّهَ يُحِبّ المُقْسِطِينَ فمعناه : إن الله يحبّ العاملين في حكمه بين الناس ، القاضين بينهم بحكم الله الذي أنزله في كتابه وأمر أنبياءه صلوات الله عليهم ، يقال منه : أقسط الحاكم في حكمه إذا عدل وقضى بالحقّ يُقسط إقساطا به . وأما قسط فمعناه : الجور ، ومنه قول الله تعالى : وأمّا القاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنّمَ حَطَبا يعني بذلك : الجائرين على الحقّ .