{ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ } لأن الشيطان لا يدعو إلا إلى كل خصلة ذميمة فيدعو الإنسان إلى البخل والإمساك فإذا عصاه ، دعاه إلى الإسراف والتبذير . والله تعالى إنما يأمر بأعدل الأمور وأقسطها ويمدح عليه ، كما في قوله عن عباد الرحمن الأبرار { والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما }
وقوله : { إِنَّ المبذرين كانوا إِخْوَانَ الشياطين وَكَانَ الشيطان لِرَبِّهِ كَفُوراً } تعليل للنهى عن التبذير ، وتنفير منه بأبلغ أسلوب .
والمراد بأخوة الشياطين : المماثلة لهم فى الصفات السيئة ، والسلوك القبيح .
قال الإِمام الرازى : والمراد من هذه الأخوة ، التشبه بهم فى هذا الفعل القبيح ، وذلك لأن العرب يسمون الملازم للشئ أخا له ، فيقولون : فلان أخو الكرم والجود . وأخو السفر ، إذا كان مواظبا على هذه الأعمال .
أى : كن - أيها العاقل - متوسطا فى نفقتك ، ولا تبذر تبذيرا . لأن المبذرين يماثلون ويشابهون الشياطين فى صفاتهم القبيحة ، وكان الشيطان فى كل وقت وفى كل حال جحودا لنعم ربه ، لا يشكره عليها ، بل يضعها فى غير ما خلقت له هذه النعم .
وفى تشبيه المبذر بالشيطان فى سلوكه السيئ ، وفى عصيانه لربه ، إشعار بأن صفة التبذير من أقبح الصفات التى يجب على العاقل أن يبتعد عنها ، حتى لا يكون مماثلا للشيطان الجاحد لنعم ربه .
وأما قوله إنّ المُبَذّرِينَ كانُوا إخْوَانَ الشّياطِينِ فإنه يعني : إنّ المفرّقين أموالهم في معاصي الله المنفقيها في غير طاعته أولياء الشياطين وكذلك تقول العرب لكلّ ملازم سنة قوم وتابع أثرهم : هو أخوهم وكانَ الشّيُطانُ لِرَبّهِ كَفُورا يقول : وكان الشيطان لنعمة ربه التي أنعمها عليه جحودا لا يشكره عليه ، ولكنه يكفرها بترك طاعة الله ، وركوبه معصيته ، فكذلك إخوانه من بني آدم المبذّرون أموالهم في معاصي الله ، لا يشكرون الله على نعمه عليهم ، ولكنهم يخالفون أمره ويعصُونه ، ويستنون فيما أنعم الله عليهم به من الأموال التي خوّلهموها وجل عزّ سنته من ترك الشكر عليها ، وتلقّيها بالكُفران . كالذي :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله إنّ المُبَذّرِينَ : إن المنفقين في معاصي الله كانُوا إخْوَانَ الشّياطينِ وكانَ الشّيْطانُ لرَبّهِ كَفُورا .
جملة { إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين } تعليل للمبالغة في النهي عن التبذير .
والتعريف في { المبذرين } تعريف الجنس ، أي الذين عرفوا بهذه الحقيقة كالتعريف في قوله : { هدى للمتقين } [ البقرة : 2 ] .
والإخوان جمع أخ ، وهو هنا مستعار للملازم غير المفارق لأن ذلك شأن الأخ ، كقولهم : أخو العلم ، أي مُلازمه والمتصف به ، وأخو السفَر لمن يُكثر الأسفار . وقول عدي بن زيد :
وأخو الحَضْر إذ بناه وإذ دجْ *** لةُ تَجبِي إليه والخابُور
يريد صاحب قَصر الحَضْر ، وهو مَلك بلد الحَضْر المسمى الضَيْزنَ بنَ معاوية القضاعي الملقّب السيْطرون .
والمعنى : أنهم من أتباع الشياطين وحُلفائهم كما يتابع الأخُ أخاه .
وقد زيد تأكيد ذلك بلفظ { كانوا } المفيد أن تلك الأخوة صفة راسخة فيهم ، وكفى بحقيقة الشيطان كراهة في النفوس واستقباحاً .
ومعنى ذلك : أن التبذير يدعو إليه الشيطان لأنه إما إنفاق في الفساد وإما إسراف يستنزف المال في السفاسف واللذات فيعطل الإنفاق في الخير وكل ذلك يرضي الشيطان ، فلا جرم أن كان المتصفون بالتبذير من جند الشيطان وإخوانه .
وهذا تحذير من التبذير ، فإن التبذير إذا فعله المرء اعتاده فأدمن عليه فصار له خلقاً لا يفارقه شأن الأخلاق الذميمة أن يسهل تعلقها بالنفوس كما ورد في الحديث « إن المرء لا يزال يكذب حتى يكتب عند الله كذاباً » ، فإذا بذر المرء لم يلبث أن يصير من المبذرين ، أي المعروفين بهذا الوصف ، والمبذرون إخوان الشياطين ، فليحذر المرء من عمل هو من شأن إخوان الشياطين ، وليحذر أن ينقلب من إخوان الشياطين . وبهذا يتبين أن في الكلام إيجازَ حذف تقديره : ولا تبذر تبذيراً فتصير من المبذرين إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين . والذي يدل على المحذوف أن المرء يصدق عليه أنه من المبذرين عندما يبذر تبذيرة أو تبذيرتين .
ثم أكد التحذير بجملة { وكان الشيطان لربه كفورا } . وهذا تحذير شديد من أن يفضي التبذير بصاحبه إلى الكفر تدريجاً بسبب التخلق بالطبائع الشيطانية ، فيذهب يتدهور في مهاوي الضلالة حتى يبلغ به إلى الكفر ، كما قال تعالى : { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون } [ الأنعام : 121 ] . ويجوز حمل الكفر هنا على كفر النعمة فيكون أقرب درجات إلى حال التخلق بالتبذير ، لأن التبذير صرف المال في غير ما أمر الله به فهو كفر لنعمة الله بالمال . فالتخلق به يفضي إلى التخلق والاعتياد لكفران النعم .
وعلى الوجهين فالكلام جار على ما يعرف في المنطق بقياس المساواة ، إذ كان المبذر مؤاخياً للشيطان وكان الشيطانُ كفوراً ، فكانَ المبذّر كفوراً بالمآل أو بالدرجة القريبة .
وقد كان التبذير من خُلق أهل الجاهلية ، ولذلك يتمدحون بصفة المتلاف والمُهلك المال ، فكان عندهم الميسر من أسْباب الإتلاف ، فحذر الله المؤمنين من التلبس بصفات أهل الكفر ، وهي من المذام ، وأدبهم بآداب الحكمة والكمال .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.