قوله تعالى : { وقفوهم } احبسوهم ، يقال : وقفه وقفاً فوقف وقوفاً . قال المفسرون : لما سيقوا إلى النار حبسوا عند الصراط ، لأن السؤال عند الصراط ، قوله تعالى : { وقفوهم إنهم مسؤولون } قال ابن عباس : عن جميع أقوالهم وأفعالهم . وروي عنه عن : لا إله إلا الله . وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة حتى يسأل عن خمس ، عن عمره فيما أفناه وعن شبابه فيما أبلاه ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ، وماذا عمل فيما علم " .
وقوله - سبحانه - { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ } زيادة فى توبيخهم وإذلالهم ، والوقف هنا : بمعنى الحبس .
قال القرطبى : يقال : وقفت الدابة أقفها وقفا فوقفت هى وقوفا : أى : احبسوهم ، وهذا يكون قبل السوق إلى الجحيم ، وفيه تقديم وتأخير أى : قفوهم للحساب ثم سوقوهم إلى النار . . أى : واحبسوهم فى موقف الحساب ، لأنهم مسئولون عما كانوا يقترفونه فى الدنيا من عقائد زائفة ، وأفعال منكرة ، وأقوال باطلة .
ولا تعارض بين هذه الآية وأمثالها من الآيات التى صرحت بأن المجرمين يسألون يوم القيامة ، وبين آيات أخرى صرحت بأنهم لا يسألون كما فى قوله - تعالى - : { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ } أقول لا تعارض بين هذه الآيات ، لأن فى يوم القيامة مواقف متعددة ، فقد يسألون فى موقف ولا يسألون فى آخر . . أو أن السؤال المثبت هو سؤال التوبيخ والتقريع والسؤال المنفى هو سؤال الاستعلام والاستخبار .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقِفُوهُمْ إِنّهُمْ مّسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ * وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىَ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وَقِفُوهُمْ : احبسوهم : أي احبسوا أيها الملائكة هؤلاء المشركين الذين ظلموا أنفسهم وأزواجهم ، وما كانوا يعبدون من دون الله من الاَلهة إنّهُمْ مَسْئُولُونَ فاختلف أهل التأويل في المعنى الذي يأمر الله تعالى ذكره بوقفهم لمسألتهم عنه ، فقال بعضهم : يسألهم هل يعجبهم ورود النار . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن سلمة بن كهيل ، قال : حدثنا أبو الزعراء ، قال : كنا عند عبد الله ، فذكر قصة ، ثم قال : يتمثل الله للخلق فيلقاهم ، فليس أحد من الخلق كان يعبد مِن دون الله شيئا إلا وهو مرفوع له يتبعه قال : فيلقى اليهود فيقول : من تعبدون ؟ فيقولون : نعبد عُزَيرا ، قال : فيقول : هل يسرّكم الماء ؟ فيقولون : نعم ، فيريهم جهنم وهي كهيئة السّراب ، ثم قرأ : وَعَرَضْنا جَهَنّمَ لِلْكافِرِينَ عَرْضا قال : ثم يلقى النصارَى فيقول : من تعبدون ؟ فيقولون : المسيح ، فيقول : هل يسرّكم الماء ؟ فيقولون : نعم ، فيريهم جهنم ، وهي كهيئة السراب ، ثم كذلك لمن كان بعبد من دون الله شيئا ، ثم قرأ عبد الله وَقفُوهُمْ إنّهُمْ مَسْئُولُونَ .
وقال آخرون : بل ذلك للسؤال عن أعمالهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا معتمر ، عن ليث ، عن رجل ، عن أنس بن مالك ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «أيّمَا رَجُلٍ دَعا رَجُلاً إلى شَيْءٍ كانَ مَوْقُوفا لازِما بِهِ ، لا يُغادِرُهُ ، وَلا يُفارقُهُ » ثُمّ قَرأ هَذِهِ الاَيَةَ : وَقِفُوهُمْ إنّهُم مَسْئُولُونَ .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وقفوا هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم وأزواجهم إنهم مسئلون عما كانوا يعبدون من دون الله .
ثم يأمر تعالى بوقفهم ، و «وقف » يتعدى بنفسه تقول وقفت ووقفت زيداً ، وأمره بذلك على جهة التوبيخ لهم والسؤال واختلف الناس في الشيء الذي يسألون عنه فروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال : يسألون هل يحبون شرب الماء البارد ، وهذا على طريق الهزء بهم ، وقال ابن عباس : يُسألون عن لا إله إلا الله ، وقال جمهور المفسرين : يُسألون عن أعمالهم ويوقفون على قبحها .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول متجه عام في الهزء وغيره وروى أنس بن مالك عن النبي عليه السلام أنه قال «أيما رجل دعا رجلاً إلى شيء كان لازماً له » ، وقرأ { وقفوهم إنهم مسؤولون }{[9837]} ، وروى ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «لا تزول قدماً عبد من بين يدي الله تعالى حتى يسأله عن خمس ، عن شبابه فيما أبلاه ، وعن عمره فيما أفناه ، وعن ماله فيما أنفقه ، وكيف كسبه ، وعما عمل فيما علم{[9838]} » ، ويحتمل عندي أن يكون المعنى على نحو ما فسره بقوله { ما لكم لا تناصرون } .
معنى : { وَقِفُوهُم } أمر بإيقافهم في ابتداء السير بهم لما أفاده الأمر من الفور بقرينة فاء التعقيب التي عطفته ، أي احبسوهم عن السير قَليلاً ليُسألوا سؤال تأييس وتحقير وتغليظ ، فيقال لهم : { ما لكم لا تناصرون } ، أي ما لكم لا ينصر بعضكم بعضاً فيدفع عنه الشقاء الذي هو فيه ، وأين تناصركم الذي كنتم تتناصرون في الدنيا وتتألبون على الرسول وعلى المؤمنين .