قوله تعالى : { وهو } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم ، وأكثر كلام العرب إذا أرادوا العطف في مثل هذا أن يظهروا كناية المعطوف عليه ، فيقولون : استوى هو وفلان وقلما يقولون : استوى وفلان ، ونظير هذا قوله : { أئذا كنا ترابا وآباؤنا }{ ( النمل-67 ) عطف الآباء على المكنى في كنا من غير إظهار نحن ، ومعنى الآية : استوى جبريل ومحمد عليهما السلام ليلة المعراج بالأفق الأعلى ، وهو أقصى الدنيا مطلع الشمس ، وقيل : فاستوى يعني جبريل ، وهو كناية عن جبريل أيضاً أي : قام في صورته التي خلقه الله فيها ، وهو بالأفق الأعلى ، وذلك أن جبريل كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة الآدميين كما كان يأتي النبيين ، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم أن يريه نفسه على صورته التي جبل عليها فأراه نفسه مرة في الأرض ومرة في السماء ، فأما في الأرض ففي الأفق الأعلى ، والمراد بالأعلى جانب المشرق ، وذلك أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان بحراء فطلع له جبريل من المشرق فسد الأفق إلى المغرب ، فخر النبي صلى الله عليه وسلم مغشياً عليه ، فنزل جبريل في صورة الآدميين فضمه إلى نفسه ، وجعل يمسح الغبار عن وجهه ، وهو قوله :{ ثم دنا فتدلى } وأما في السماء فعند سدرة المنتهى ، ولم يره أحد من الأنبياء على تلك الصورة إلا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
( علمه شديد القوى . ذو مرة فاستوى . وهو بالأفق الأعلى . ثم دنا فتدلى . فكان قاب قوسين أو أدنى . فأوحى إلى عبده ما أوحى . ما كذب الفؤاد ما رأى . أفتمارونه على ما يرى ? ) . .
والشديد القوي ذو المرة [ أي القوة ] ، هو جبريل - عليه السلام - وهو الذي علم صاحبكم ما بلغه إليكم .
وهذا هو الطريق ، وهذه هي الرحلة ، مشهودة بدقائقها : استوى وهو بالأفق الأعلى . حيث رآه محمد [ صلى الله عليه وسلم ] وكان ذلك في مبدأ الوحي . حين رآه على صورته التي خلقه الله عليها ، يسد الأفق بخلقه الهائل .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَهُوَ بالأُفُقِ الأَعْلَى والأفق : الذي يأتي منه النهار .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الحسن ، في قوله : وَهُوَ بالأُفقِ الأعْلَى قال : بأفق المشرق الأعلى بينهما .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا حكام ، عن أبي جعفر ، عن الربيع وَهُوَ بالأُفُقِ الأعْلَى يعني جبريل .
قال : ثنا مهران ، عن أبي جعفر ، عن الربيع وَهُوَ بالأُفُقِ الأَعْلَى قال : السماء الأعلى ، يعني جبريل عليه السلام .
وقوله : { وهو } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم ، وقد تقدم ذكره في الضمير في { علمه } . وفي هذا التأويل العطف على المضمر المرفوع دون أن يؤكد ، وذلك عند النحاة مستقبح ، وأنشد الفراء على قوله : [ الطويل ]
ألم تر أن النبع يصلب عوده [ ولا يستوي والخروع المتقصف{[10687]}
وقد ينعكس هذا الترتيب فيكون «استوى » لمحمد وهو لجبريل عليه السلام ، وأما { الأعلى } فهو عندي لقمة الرأس وما جرى معه .
وقال الحسن وقتادة : هو أفق مشرق الشمس وهذا التخصيص لا دليل عليه .
والأفق : اسم للجو الذي يبدو للناظر ملتقى بين طَرَف منتهى النظر من الأرض وبين منتهى ما يلوح كالقبة الزرقاء ، وغلب إطلاقه على ناحية بعيدة عن موطن القوم ومنه أفق المشرق وأفق المغرب .
ووصفه ب { الأعلى } في هذه الآية يفيد أنه ناحية من جو السماء . وذكر هذا ليرتب عليه قوله : { ثم دنا فتدلى } .
و { ثم } عاطفة على جملة { فاستوى } ، والتراخي الذي تقيده { ثم } تراخخٍ رتبيّ لأن الدنوّ إلى حيث يبلِّغ الوحيَ هو الأَهم في هذا المقام .