{ وَهُوَ بِالأفُقِ الأعْلَى } يعني : جبريل ، استوى في الأفق الأعلى . قاله عكرمة وغير واحد . قال عكرمة : والأفق الأعلى : الذي يأتي منه الصبح . وقال مجاهد : هو مطلع الشمس . وقال قتادة : هو الذي يأتي منه النهار . وكذا قال ابن زيد ، وغيرهم .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا مُصَرِّف بن عمرو اليامي أبو القاسم ، حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن طلحة بن مصرف ، حدثني أبي ، عن الوليد - هو ابن قيس - عن إسحاق بن أبي الكَهْتَلَة أظنه ذكره عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ير جبريل في صورته إلا مرتين ، أما واحدة فإنه سأله أن يراه في صورته فسد الأفق . وأما الثانية فإنه كان معه حيث صعد ، فذلك {[27567]} قوله : { وَهُوَ بِالأفُقِ الأعْلَى } .
وقد قال ابن جرير هاهنا قولا لم أره لغيره ، ولا حكاه هو عن أحد ، وحاصله : أنه ذهب إلى أن المعنى : { فَاسْتَوَى } أي : هذا الشديد القوى ذو المرة هو ومحمد صلى الله عليهما وسلم { بِالأفُقِ الأعْلَى } أي : استويا جميعا بالأفق ، وذلك ليلة الإسراء كذا قال ، ولم يوافقه أحد على ذلك . ثم شرع يوجه ما قال من حيث العربية فقال : وهذا كقوله تعالى : { أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا } [ النمل : 67 ] ، فعطف بالآباء على المكنّى في { كنا } من غير إظهار " نحن " ، فكذلك قوله : { فَاسْتَوَى . وَهُوَ } قال : وذكر الفراء عن بعض العرب أنه أنشده :
ألم تَرَ أنّ النبعَ يَصْلُبُ عُودُه *** ولا يَسْتَوي والخرْوعُ المُتَقصِّفُ{[27568]}
وهذا الذي قاله من جهة العربية متجه ، ولكن لا يساعده المعنى على ذلك ؛ فإن هذه الرؤية لجبريل لم تكن ليلة الإسراء ، بل قبلها ، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الأرض ، فهبط عليه جبريل ، عليه السلام ، وتدلى إليه ، فاقترب منه وهو على الصورة التي خلقه الله عليها ، له ستمائة جناح ، ثم رآه بعد ذلك نزلة أخرى عند سدرة المنتهى ، يعني ليلة الإسراء ، وكانت هذه الرؤية الأولى في أوائل البعثة بعد ما جاءه جبريل ، عليه السلام ، أول مرة ، فأوحى الله إليه صدر سورة " اقرأ " ، ثم فتر الوحي فترة ذهب النبي صلى الله عليه وسلم فيها مرارا ليتردى من رؤوس الجبال ، فكلما هَمّ بذلك ناداه جبريل من الهواء : " يا محمد ، أنت رسول الله حقا ، وأنا جبريل " . فيسكن لذلك جأشه ، وتقر عينه ، وكلما طال عليه الأمر عاد لمثلها ، حتى تَبَدّى له جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الأبطح في صورته التي خلقه الله عليها ، له ستمائة جناح قد سد عُظْم خلقه الأفق ، فاقترب منه {[27569]} وأوحى إليه عن الله ، عز وجل ، ما أمره به ، فعرف عند ذلك عظمة المَلَك الذي جاءه بالرسالة ، وجلالة قَدْره ، وعلوّ مكانته عند خالقه الذي بعثه إليه . فأما الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده حيث قال :
حدثنا سلمة بن شَبِيب ، حدثنا سعيد بن منصور ، حدثنا الحارث بن عبيد ، عن أبي عمران الجَوْني ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بينا أنا قاعد إذ جاء جبريل ، عليه السلام ، فوَكَز بين كتفي ، فقمت إلى شجرة فيها كَوَكْرَي الطير ، فقعد في أحدهما وقعدت في الآخر . فَسَمَت وارتفعت حتى سَدّت الخافقين وأنا أقلب طرفي ، ولو شئت أن أمس السماء لمسست ، فالتفت إلي جبريل كأنه حلْس لاطٍ{[27570]} ، فعرفتُ فضل علْمه بالله علي . وفُتِح لي بابٌ من أبواب السماء ورأيت النور الأعظم ، وإذا دون الحجاب رفرفة الدر والياقوت . وأوحى إلي ما شاء الله أن يوحي " .
ثم قال البزار : لا يرويه إلا الحارث بن عبيد ، وكان رجلا مشهورا من أهل البصرة {[27571]} .
قلت : الحارث بن عُبَيد هذا هو أبو قدامة الإيادي ، أخرج له مسلم في صحيحه إلا أن ابن معين ضعَّفه ، وقال : ليس هو بشيء . وقال الإمام أحمد : مضطرب الحديث . وقال أبو حاتم الرازي : كتب حديثه ولا يحتج به . وقال ابن حبان : كَثُر وَهَمه فلا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد . فهذا الحديث من غرائب رواياته ، فإن فيه نكارة وغرابة ألفاظ وسياقًا عجيبا ، ولعله منام ، والله أعلم .
وقال الإمام أحمد : حدثنا حجاج ، حدثنا شريك ، عن عاصم ، عن أبي وائل ، عن عبد الله
قال : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته وله ستمائة جناح ، كل جناح منها قد سَدّ الأفق ، يسقط من جناحه من التهاويل والدر والياقوت ما الله به عليم {[27572]} . انفرد به أحمد {[27573]} .
وقال أحمد : حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن إدريس بن مُنَبِّه ، عن وهب بن منبه ، عن ابن عباس قال : سأل النبي صلى الله عليه وسلم جبريل أن يراه في صورته ، فقال : ادع ربك . فدعا ربه ، عز وجل ، فطلع عليه سواد من قبل المشرق ، فجعل يرتفع وينتشر ، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم صعِق ، فأتاه فَنَعَشَه ومسح البزاق عن شِدْقه .
انفرد به أحمد{[27574]} .
وقد رواه ابن عساكر في ترجمة " عتبة بن أبي لهب " ، من طريق محمد بن إسحاق ، عن عثمان بن عروة بن الزبير ، عن أبيه ، عن هَبَّار بن الأسود قال : كان أبو لهب وابنه عتبة قد تجهزا إلى الشام ، فتجهزت معهما ، فقال ابنه عتبة : والله لأنطلقن إلى محمد ولأوذينه في ربه ، سبحانه ، فانطلق حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا محمد ، هو يكفر بالذي دنى فتدلى ، فكان قاب قوسين أو أدنى . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اللهم ابعث إليه كلبا من كلابك " . ثم انصرف عنه فرجع إلى أبيه فقال : يا بني ، ما قلت له ؟ فذكر له ما قال له ، قال : فما قال لك ؟ قال : قال : " اللهم سلط عليه كلبا من كلابك " قال : يا بني ، والله ما آمنُ عليك دُعاءه . فسرنا حتى نزلنا الشراة ، وهي مأْسَدَة ، ونزلنا إلى صَوْمَعة راهب ، فقال الراهب : يا معشر العرب ، ما أنزلكم هذه البلاد فإنها تسرح الأسْدُ فيها كما تسرح الغنم ؟ فقال لنا أبو لهب : إنكم قد عرفتم كبر سني وحقي ، وإن هذا الرجل قد دعا على ابني دعوةً - والله - ما آمنها عليه ، فاجمعوا متاعكم إلى هذه الصومعة ، وافرشوا لابني عليها ، ثم افرشوا حولها . ففعلنا ، فجاء الأسد فَشَمّ وجوهنا ، فلما لم يجد ما يريد تَقَبّض ، فوثب ، فإذا هو فوق المتاع ، فشم وجهه ثم هزمه هَزْمة فَفَضخ رأسه . فقال أبو لهب : قد عرفت أنه لا ينفلت عن دعوة محمد{[27575]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.