{ ووجدك عائلاً فأغنى } أي فقيراً فأغناك بمال خديجة ثم بالغنائم . وقال مقاتل : فأرضاك بما أعطاك من الرزق . واختاره الفراء : وقال : لم يكن غنياً عن كثرة المال ولكن الله أرضاه بما آتاه وذلك حقيقة الغنى .
أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي أنبأنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي ، أنبأنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان ، حدثنا أحمد بن يوسف السلمي ، حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر عن همام بن منبه أنه قال : أنبأنا أبو هريرة قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس الغنى عن كثرة العرض ، ولكن الغنى غنى النفس " .
أنبأنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن الحسين الزعفراني ، أنبأنا أحمد بن سعيد أنبأنا أبو يحيى محمد بن عبد الله ، حدثنا أبي ، حدثني شرحبيل بن شريك عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً وقنعه الله بما آتاه ثم أوصاه باليتامى والفقراء " . فقال :{ فأما اليتيم فلا تقهر }
{ وَوَجَدَكَ عَائِلًا } أي : فقيرًا { فَأَغْنَى } بما فتح الله عليك{[1451]} من البلدان ، التي جبيت لك أموالها وخراجها .
فالذي أزال عنك هذه النقائص ، سيزيل عنك كل نقص ، والذي أوصلك إلى الغنى ، وآواك ونصرك وهداك ، قابل نعمته بالشكران .
وقوله - سبحانه - : { وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فأغنى } بيان لنعمة ثالثة من نعمه - تعالى - على نبيه صلى الله عليه وسلم .
وأصل العائل : الإِنسان الذى له عائلة لا يستطيع الإِنفاق عليها ، ثم أطلق هذا اللفظ على الإِنسان الفقير حتى ولو لم تكن له عائلة أو أسرة ، والفقر يسمى عيلة ، كما فى قوله - تعالى - : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً } - أى : فقرا - { فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ . . . } أى : وقد كنت - أيها الرسول الكريم - فقيرا ، حيث مات أبوك دون أن يترك لك مالا كثيرا ، ونشأت فى كنف جدك ثم عمك ، وأنت على هذه الحال ، ثم أغناك الله - تعالى - بفضله وكرمه بنوعين من الغنى :
أما أولهما - وهو الأعظم - : فهو غنى النفس ، بأن منحك نفسا عفيفة قانعة بما أعطاك - سبحانه - من رزق ، حتى ولو كان كفافا .
وأما ثانيهما : فهو الغنى المادى عن الاحتياج إلى الناس ، بما أجراه على يديك من الربح فى التجارة ، وبما وهبتك زوجك خديجة من مالها ، فعشت مستور الحال ، غير محتاج إلى من ينفق عليك .
وهكذا نجد الآيات الكريمة تبين لنا أن من فضل الله - تعالى - على نبيه صلى الله عليه وسلم أنه آواه فى يتمه وصغره ، وهداه من ضلاله وحيرته ، وأغناه بعد فقره وحاجته .
وبعد أن عدد - سبحانه - هذه النعم لنبيه صلى الله عليه وسلم أمره بشكرها ، وأداء حقوقها .
ولقد كنت فقيرا فأغنى الله نفسك بالقناعة ، كما أغناك بكسبك ومال أهل بيتك [ خديجة رضي الله عنها ] عن أن تحس الفقر ، أو تتطلع إلى ما حولك من ثراء !
ثم لقد نشأت في جاهلية مضطربة التصورات والعقائد ، منحرفة السلوك والأوضاع ، فلم تطمئن روحك إليها . ولكنك لم تكن تجد لك طريقا واضحا مطمئنا . لا فيما عند الجاهلية ولا فيما عند أتباع موسى وعيسى الذين حرفوا وبدلوا وانحرفوا وتاهوا . . ثم هداك الله بالأمر الذي أوحي به إليك ، وبالمنهج الذي يصلك به .
والهداية من حيرة العقيدة وضلال الشعاب فيها هي المنة الكبرى ، التي لا تعدلها منة ؛ وهي الراحة والطمأنينة من القلق الذي لا يعدله قلق ؛ ومن التعب الذي لا يعدله تعب ، ولعلها كانت بسبب مما كان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يعانيه في هذه الفترة ، من انقطاع الوحي وشماتة المشركين ووحشة الحبيب من الحبيب . فجاءت هذه تذكره وتطمئنه على أن ربه لن يتركه بلا وحي في التيه وهو لم يتركه من قبل في الحيرة والتيه !
وقوله : وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأغْنَى يقول : ووجدك فقيرا فأغناك ، يقال منه : عال فلان يَعيل عَيْلَة ، وذلك إذا افتقر ومنه قول الشاعر :
فَمَا يَدْرِي الفَقِيرُ مَتى غِناه *** وَما يَدْرِي الغَنِيّ مَتى يَعِيلُ
يعني : متى يفتقر . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُميد ، قال : حدثنا مِهْران ، عن سفيان وَوَجَدَكَ عائِلاً فقيرا . وذُكر أنها في مصحف عبد الله : «وَوَجَدَكَ عَدِيما فآوَى » .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيما فآوَى وَوَجَدَك ضَالاّ فَهَدَى وَوَجَدَكَ عائِلاً فأغْنَى قال : كانت هذه منازل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قبل أن يبعثه الله سبحانه وتعالى .
والعائل الفقير ، وقرأ اليماني «عيَّلاً » بشد الياء المكسورة ومنه قول الشاعر [ أحيحة ] : [ الوافر ]
وما يدري الفقير متى غناه . . . وما يدري الغني متى يعيل{[11875]}
وأعال : كثر عياله ، وعال : افتقر ، ومنه قول الله تعالى : { وإن خفتم عيلة }{[11876]} [ التوبة : 28 ] وقوله تعالى : { فأغنى } قال مقاتل معناه رضاك بما أعطاك من الرزق ، وقيل فقيراً إليه فأغناك به ، والجمهور على أنه فقر المال وغناه ، والمعنى في النبي صلى الله عليه وسلم أنه أغني بالقناعة والصبر وحببا إليه فقر الحال وغناه ، وقيل أغني بالكفاف لتصرفه في مال خديجة ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قط كثير المال ورفعه الله عن ذلك ، وقال : «ليس الغنى عن كثرة العرض ولكنه غنى النفس »{[11877]} .
والعائل : الذي لا مال له ، والفقر يسمى عَيْلَة ، قال تعالى : { وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم اللَّه من فضله إن شاء } [ التوبة : 28 ] وقد أغناه الله غناءين : أعظمهما غنى القلب إذ ألقى في قلبه قلة الاهتمام بالدنيا ، وغنى المال حين ألهم خديجة مقارضته في تجارتها .
وحذفت مفاعيل { فآوى } ، { فهدى } ، { فأغنى } للعلم بها من ضمائر الخطاب قبلها ، وحدفُها إيجاز ، وفيه رعاية على الفواصل .